بحث ..

  • الموضوع

رسالة سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي بمناسبة المولد النبوي الشريف.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال تعالى في كتابه الكريم {ِإنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ} (البقرة 119)، فالبُشرى لمن اتَّبَع وأطاع واهتدى، والإنذارُ تخويفٌ بالعواقب قبل وقوعِها لمن ابتدَعَ وعاندَ واسترسل في ظلمةِ الضّلال. وحين يكونُ الرَّسُولُ بأمر اللهِ المُبشِّرَ والمُنذِرَ، فلأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أيَّدهُ بالحَقِّ، ودلالتُه الكتابُ. فالطاعةُ موثوقةٌ بما اقتضاهُ هذا الحقّ، والمعصيةُ يُحاسَبُ عليها المذنبُ إمَّا لأنَّه رأى وقاسَ بهوى النَّفسِ الأمَّارة بالسُّوء، وإمَّا لأنَّه استرسل في الغفلةِ إمعانًا فيما زيَّنتْ له الحياةُ الدنيا من زخاريفِها وباطلِها ودعوتِها إلى الشَّهواتِ وطغيان الأنا، أو لدخولِه في أيِّ بابٍ من أبوابِ الشِّرك المضادِد للتَّوحيد.

واللهُ الحقُّ {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل 90). فالمؤمنُ المُوحِّدُ يتوخَّى العدلَ نِبراسًا يُضيءُ به جَنَانَهُ أي مرآة نفسِه ليعدلَ مع ذاته بتحرير روحِه من رِقِّ الوقوعِ في الذّنوب، ليكونَ مستنيراً بلطائف الرِّسالة الرَّبـَّانيَّة، وبالتالي، عادلاً في بيته وفي أهلِه وفي مجتمعه. وهوَ فاعلٌ للخير، مُحسِنٌ، “يعبُدُ الله كأنَّه يراه”، فلا يطغى إذ يصير فريسةَ الأخلاقِ المذمومة، ولا يشقى إذ يُسيءُ إلى إنْسَانيَّتِه، ولا يظلم حين يطمسُ اختلاج الرَّحمة في قلبه. بل عليه أن يصلَ أخيه، والأرقى في معراج الدِّينِ السَّمْحِ أنْ يصِلَ الإنْسانيَّةَ في أخيهِ الإنسان. والإسلامُ قائمٌ على حدِّ ميزان، {وَكَذلِكَ جَعلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة 143)، يُسدِّدُ خُطاها الكتابُ في سبيلِ الهُدى والرُّشْد، {قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِه وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (يونس 108).

​هذا قَبَسٌ من مَعنى وجودِ رسُول الله صلّى الله عليه وسلَّم، وهذا بعضٌ من غايةِ “الذِّكْر” وَ “المُذَكِّر”، {إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (الزمر9). فالوقُوفُ في معنى هذا الوُجُودِ مناسبةٌ لرؤيةِ واقع الأمَّةِ في مِرآةِ الأصْل. وعلَى المُسلِمِ أن يُنصِفَ في رؤيـتِه هذه، كلّ على قدْر المسؤوليَّة التي يتحمَّلها. وإن كانتِ الوحدةُ الإسلاميَّةُ تتعرَّضُ لرياحٍ عاصفةٍ مخيفةٍ، فإنَّها، بالرّغم من كلِّ شيء، وبقوَّةِ الإيمان، يجب أن تبقى هدفًا أسمى في حدِّ ذاته. هذا نراهُ منَ الإخلاصِ لمعنى الرِّسالةِ. إنَّ الأصُولَ في الإسلامِ السَّمْحِ الحنيفِ كان فيها من الرَّحمةِ واليُسْر بحيثُ جمَعتِ القلوبَ بكلمةِ الإيمان التي تُشكِّلُ القاعدةَ المشتركَة لحضارةٍ ساميَةٍ حفظَت للإنسانيَّة ذاكرتَها الحيَّة بأطيب ما فيها من دلالات. كلمةٌ داحضةٌ للشِّركِ، وهي نُورٌ لبني البشر. إنَّ السِّياسات الواقعيَّة مهما تناقضَت يجب أن لا تُخَلْخِل هذا الإيمان. والقناعةُ يجبُ أن تكونَ راسخةً بأنَّ من دونِ هذا اليقين فإنَّ الإمكانَ يبقى قائمًا بأن تتداعى علينا الأمَمُ تحقيقًا لمصالِحها قبل أيّ أمرٍ آخَر.

​إنَّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيرًا فتح له بابَ العمل وأغلقَ عنهُ بابَ الجدَل، وها هي فرصة العمَل متاحةٌ لنا في لبنان للسَّير قدُمًا في إعادةِ الحياة للدستور المبنيّ من روحٍ ميثاقيَّةٍ طالما جمَعتْنا في السَّراء والضَّرّاء. إنَّه لا يُمكنُ للجدَلِ أن يكونَ نهجَ سياسةٍ مسؤولةٍ خصوصاً إنْ لم يكن له أفُقٌ مُثمر. إنَّه حينذاك يُصبِحُ أداةً من أدواتِ ضياع البلد. وليس من قيَم المشاركةِ في الحياةِ العامَّة، بل من قيَم المشاركةِ في تولّي مواقع الحكم والإدارة أنْ يتَّخذَ السياسيُّ لهُ من هذا المسلكِ نهجًا يتوخَّى بهِ ما يتوخَّاهُ من غايات.

​لقد علَّمنا تاريخُ لبنان، بلدنا العزيز، معنى الآخَر، والعيش معه، والمشاركة في تدبير أمر أن يكونَ لنا وطناً جميلاً يجمعُنا في دوحةِ فسحته الرَّحيبة المتسامحة. إنَّ البلدَ بمعناه هذا هو أمانةٌ يجبُ أن نستحقَّها، شعباً ومؤسَّساتٍ ورجالَ حُكْم. واستحقاقها هو ببذل الجهود والتضحيات كي يبقى قائماً على قاعدة الوحدة الوطنيَّة، وبابُها اليوم إعادة الفعاليَّة الدّستوريَّة بما تعنيه من انتخاب رئيس، وإجراء انتخابات عامَّة، والانخراطِ في آليَّاتِ الحياة السياسيَّة الديموقراطيَّة. هكذا خصوصاً، نُعزِّزُ قدُرات جيشِنا الوفيّ، ونوفِّر له الدَّعمَ الضروريّ كي يبقى حاملاً رايةَ الوطن ذوداً عن حماه وسط كلّ العواصف المحدقة به.

​إنَّنا نتقدَّم من اللبنانيِّين جميعاً بأطيب الأمنيات، بأن يزكّي القلوب بمعاني احتفالهم الرُّوحيّ بكلٍّ من المولد النبويّ والميلاد المجيد، سائلين الله تعالى أن يمنَّ على عِبادِه بالسَّلام. متضرِّعين إليهِ بأن يوفِّقَ السَّاعين بصدْقٍ وإخلاص إلى إيجاد الحلُول السياسيَّةِ المُثمرة في البلدان الشقيقةِ، وبأن يُزيل الغمَّة عن شعوبها الصَّابرة، وبأن تُمهَّدَ سبُل العيش الكريم لشعوب أمَّتنا، وبأن ينصرَ شعبَنا في فلسطين الحبيبة، إنه هو السميع المجيب.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

تصنيفات أخرى