بحث ..

  • الموضوع

⁠⁠⁠فجر الأضحى

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ وَالفَجْرِ۞وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾

الحمد لله الذي أوضح لنا الحقّ منهاجا ، فجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا ، والصلاة على رسوله المبعوث رحمة للعالمين ، صلاة تنير كل ما دجا وبعد ،
فإنّ الأمّة الإسلاميّة تعيش في الأيّام العشر أوقاتًا شريفة ، وليالي فاضلة وأزمنة عامرة بذكر الله عزّ وجلّ وشكره ، وموسمًا عظيمًا من مواسم طاعة الله وعبادته .
فقد شرعنا بالدخول في رحلة روحيّة يستمطر فيها المؤمنون رحمة الله ، ويستجلبون عفوه ومغفرته ، ويسألونه من فضله ، ويتوجّهون إليه بالذكر والدعاء والاستغفار والمناجاة ، معترفين بالذل والعجز والفقر والمسكنة ، صارفين كل معاني العزة والقوة والسلطان والغنى والعلو لله تعالى وحده لا شريك له . و ينتهي المطاف بهذه الرحلة عند فجر الأضحى ، ليحمل إلينا ما تحمله كلمة عيد من معان كثيرة ؛ فعندما ننطق بهذه الكلمة مباشرة يخطر للذهن معنى الفرح ، معنى البهجة ، معنى السرور ، بل معنى من يستريح ويكافأ بعد عمل دؤوب طويل .

وإذا وقفنا عند الدلالة الاجتماعية للعيد نجد أنه تجديد وتمتين للروابط الاجتماعيّة على أساس من الحب والوفاء والإخاء ؛ فبمثل هذا اليوم يتذكّر الغني أخاه الفقير ، والقوي يشعر بأخيه الضعيف ، وينفق الخيّرون من خير ما رُزقوا ، فتشمل الفرحة كلّ بيت ، ولا تشرق شمس العيد إلا والبهجة تغمر القلوب والبسمة تعلو الشفاه . فالعيد إذن مناسبة لإصلاح ذات البين ، فالواجب على أبنائنا في هذه الأيّام الجليلة ألّا ينسوا تراثهم وعاداتهم العريقة الشريفة ، التي تأصّلت في جذورهم ، والتي تحثّ على محبّة الآخر ، وحسن المعاملة معه في جميع الأمور ، وكذلك تنصّ على اقتناء الأخلاق الحميدة ، واكتناز الطبائع اللطيفة ، واعتماد الأدب والتواضع مع الخالق ومع الخلق ، فقد قال تعالى ﴿ وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الذِيْنَ يَمْشُوْنَ عَلَى الأَرْضِ هَوَنًا ﴾
ويجب أيضًا التقيّد بالحدود التي وضعها تعالى للبشرية واعتماد العقل والحكمة والاعتدال في الأقوال والأفعال ، والتّمسّك بالفضائل ، والشرف والتّقوى في الأعمال ، والتّمييز بين الحلال والحرام ، والرضى والتسليم ، ودوام الشكر على كلّ حال .
ولو نظرنا إلى الأضحى نظرة دينيّة لوجدنا أنّه شكر لله تعالى على دوام العبادة ، وفيه دعوة إلى القرب من حضرته عزّ وجلّ بتقديم قربان الطاعة والرضى والعمل الخالص لوجهه الكريم ، لذلك فهو بالحقيقة دعوة إلى القيام برحلة لملاقاته بقلب خلا إلا من الأنس به.
والأضحى صلاة ونحر ، وقد قال المفسّرون بأنّ الصّلاة فُسّرت بصلاة العيد ، وهي الصّلاة الخالصة لوجه الله ، والنحر هو التّضحية بأفضل الأنعام من خيار مال العرب ، لذلك كان لابدّ للإنسان أن يقدّم أفضل ما عنده لله تعالى ، قال تعالى لنبيّه عليه الصّلاة والسّلام ﴿ إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ۞ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ .
وإذا كان معنى القربان التّقرّب من الله والافتداء من عذاب جهنّم ، والمؤمن يقدّمه في الأضحى فإنّه احتفال يتجاوز الحدود التاريخيّة ليكون عيدا بفرح الآخرة ، وهل تُقتبس هذه الحياة الدائمة إلّا من الحياة الزّائلة ؟ لا والله ؛ فأنت قد تشعل سراجك من سراج آخر قد أشرف على الانطفاء ، فيتّقد الثاني ويضيء غاية الإضاءة ، ويتّصل ضوءه وينطفئ الأول .
فالواصل إلى هذا الفرح السّرمدي عليه تقديم الهديّة ، وإنّ لحوم الأنعام – وإن كانت واجبة التّقديم – فإنّها لاتكفي ؛ لأنّها من عالم الفناء وهذا ما أكّده سبحانه في كتابه العزيز : ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾. فالجوهر الأبقى هو النفس الإنسانية التي اشتراها الله من المؤمنين بأنّ لهم الجنّة .
فكلمة أضحى إذن لاتقف عند الحدود الماديّة للحدث ، وإنّما ترتكز على صورة الحدث المادية لتتجاوزها إلى الجانب الرمزي لما هو أسمى بعدا وأشمل .

وقد أراد الله من خلال الأضحى أن يخلّد تلك الواقعة التي جسّدت التضحية في سبيل الله بأعلى مظاهرها ، والتي كان عنوانها الإسلام : إسلام العقل والقلب والحركة لله عزّ وجلّ ؛ فلا إرادة للإنسان أمام إرادة الله ، فقد وقف إبراهيم عليه السّلام ليسلّم أمره إلى خالقه بعد أن رأى في منامه أنّه يذبح ولده فاستجاب الطفل الصّغير لما علم من أبيه ، وأسلم أمره هو الآخر إلى مالك الرّقاب ، لكنّه سبحانه فداه بكبش عظيم .
لقد مرّ إبراهيم وابنه عليهما السّلام بامتحان إلهي يختبر تقواهما ، فجاء الأمر الأعلى بالتّضحية بأعزّ ما يُملَك .
وكلّ منا في حياته يمرّ بامتحانات عديدة قد تشبه هذا الاختبار بعض الشيء ، فمن منّا لم يتعرّض لامتحان المال ، من أين يجمعه ، أهو حلال أم حرام ، ومن منّا لم يمرّ بامتحان النفس وما يدخل عليها من وساوس إبليسية ، وهل ماعمله من خير كان يريد به وجهه تعالى أم حبّا للجاه والظهور بمظهر العابد أمام الناس ، وغير ذلك من الاختبارات التي قد تصادف الإنسان كل يوم .
فهل نظر أحد منا إلى نفسه بعد كلّ موقف ، هل عرف مقدار الرّبح والخسارة فيه ، وهل كان النجاح حليفه في كل الاختبارات ، وهل أرضى الله في عبادته ، وهل حقّق الشروط الواجبة على المتعبّد ؛ فإنّ الله عزّ وجلّ لا يرضى من العبادات إلّا ما جمع شرطين :
أحدهما الإخلاص لله تعالى ، بأن يخلص النيّة له ، فلا يقصد رياء ولا سمعة ولا رئاسة ، ولا عرضا من أعراض الدّنيا ولا تقرّبا إلى مخلوق .
والثاني المتابعة لرسول الله لقوله عليه الصلاة والسّلام :
[ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ ]
فإذا أدرك العبدُ ببصيرته فحوى حكمة الله من هذه المناسك ، لتيقَّن أنَّه لا بدّ له، في كل لحظةٍ ، أن يبذلَ ما في الوسع والطاقة وصولاً إلى صفاء القلب من الأكدار ، وتنقية أعمال الجوارح من الأوزار، والسعي بالشوق والمحبَّة إلى اقتباس لطائف الأنوار، ولا يتمّ له هذا إلا باستشعاره سرَّ الأضحى ومقاصدَه السامية.
وختاما نودّ تهنئتكم بإشراق شمس هذا العيد المبارك ، راجين منه عزّ وجلّ أن يلقي في ضمائرنا محبّة خالصة ، فنكون كنفس واحدة لا تجزؤ ولا انقسام ، ولا تميّز ولا انفصام ، فالنفوس ممتزجة ، والأملاك مشتركة ، والنعم متفاوضة ، وذات البين صافية ، ودخائل الصدور خالصة ، لنرتضع لبان الممازجة ، ونأوي إلى ولاء المودّة .

اللجنة الدينية في المجلس المذهبي.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

تصنيفات أخرى