بحث ..

  • الموضوع

فصل في مناقب وأقوال أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه

من كلامه رضي الله عنه: علامة إعراض الله عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه. وقال: أضرّ ما على أهل الديانات الدّعاوي بالنّفس. وقال: المروءة احتمال زلل الإخوان وقال: لو أقبل صادق على الله مائة سنة ثمّ أعرض عنه لخظة كان ما فاته أكثر مِمّا ناله. وقال: إن أمكنك أن لا تكون ألةُ بيتك إلاّ خزفًا فافعل. وسئل عن العارف. فقال: من نطق عن سرّك وأنت ساكت. وقال: ما أخذنا التصوّف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدّنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات وقال: الوقت إذا فات لا يستدرك، وليس شيء عندي أعزّ من الوقت. من عرف الله لا يأنس بسواه. وقال: من لم يكن علمه بالعمل، وعمله بالإخلاص، وإخلاصه باليقين، ويقينه بالصّبر، وصبره بالرّضى، ورضاه بالصّفا، وصفاؤه بالمشاهدة، وإلاّ فهو من الهالكين. وقيل للجنيد: كيف الطريق إلى الله؟ فقال: اترك الدّنيا وقد نلت، وخالف هواك وقد وصلت. وسئل عن النهاية؟ فقال: النّهاية الرّجوع إلى البداية، وهو أنّ نهاية المريد وغايته أن يبلغ إلى بدايته حيث خلقه الله تعالى، وصوّره في بطن أمّه، ونفخ فيه الرّوح، وأنّه في تلك الحالة كان في غاية الفقر والحاجة إلى الله تعالى، وفي غاية التوكّل على الله تعالى، ولا حفاظ ولا مربّي في تلك الحالة وغيرها إلا هو، وأنّه في تلك الحالة في غاية الضّعف والعجز والتواضّع والتذلّل والخضوع لله عزّ وجلّ. وانّه في غاية الصّفاء من الحقد والحسد والكبر والعجب والهوى، وسائر الصفات المذمومة والذّنوب كلّها. وقال: صفة الفقير: جوّال الفكر، جوهريّ الذكر، غزير حلمه، كثير علمه، حركاته أدب، وكلامه عجب، بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، قلبه محزون، ولسانه مخزون، ولفظه موزون، ضحكهُ تبسّم، واستفهامه تعلّم، معلّم للجاهل، مذكّر للغافل، كثير صمتُه، جميل سمته، لا يشمت بمُصيبة ولا يذكر أحدًا بغيبة، إذا غضب لا يخرجه غضبُه عن الحقّ، وإذا رضي لا يدخلُه رضاه في الباطل. لا يعرف الجفا، إذا قدر عفا. فمن كان بهذه المثابة، تقبّل الله منه التّوبة والإنابة. وقال: العبودية ترك الاختيار، وملازمة الذّل والافتقار. وقال: الزّهد استصغار الدّنيا، ومحو آثارها من القلب. وقال: أبو بكر الكتّاني جرّت مسألة في المحبّة بمكّة أيّام الموسم فتكلم الشّيوخ فيها. وكان الجنيد أصغرهم سنًّا. فقالوا : هات ما عندك يا عراقيّ، فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثمّ قال: عبد ذاهبٌ عن نفسه، متصل بذكر ربّه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس ودّه، وانكشف له الجبّار من أسباب غيبه فإن تكلّم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرّك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله، ولله، ومع الله. فبكى الشّيوخ وقالوا : ما على هذا مزيد، جبر الله كسرَك يا تاج العارفين. وقال: أَحبُّ للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبَه بهذه الثلاث وإلا تغيّر حالُه. التكسّب، وطلبُ الحديث، والتزوّج. وسئل عن الزّهد فقال: له معنيان: ظاهر وباطن. فالظاهر بُغض ما في الأيدي من الأملاك وترك طلب المفقود، والباطن زوال الرّغبة عن القلب، ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك، وإذا تحقّق بذلك رزقه الله تعالى الإشراف على الآخرة، والنظر إليها بقلبه، فحينئذ يجدّ في العمل، بتقصير الأمل، وتقريب الأجل، لأنّ الأسباب عن قلبه منقطعة، والقلب منفرد بالآخرة ،وحقيقة الزّهد قد خلصت إلى قلبه، فامتلأ من الذكر الخالص لربّه سبحانه وتعالى. وقال: إذا تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ فاستوحش أحدُهما من صاحبه، واحتشم منه إلاّ لعلَّةٍ في أحدهما. وقال: اعلم أنّ أوّل عبادة الله عزّ وجلّ معرفته، وأصل معرفته توحيدُه، ونظام توحيده نفي الصّفات عنه بالكيف والحيث والأين. وقال أيضاً: بصفاء المطعم والمشرب والملبس، والمسكن يصلح الأمر كلّه، وقال: احتقار الفقراء، وسرعة الغضب، وحبّ المنزلة كل ذلك من منزلة النّفس. وقال: الكرامات الّتي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات، والعصمة عن المعاصي والمخالفات. فإنّ المعالي لا تكتسب بالدّعاوي، والآمال لا تنال بالتّواني. والمعالي لا تكتسب إلاّ بالتّقوى والصّبر على البلوى، والتوكل على الله في السّر والنّجوى، فمن ارتقى اتّقى، ومن لم يتّق هبط في مهاوي الشّقا. وقيل دخل جماعة على الجنيد، فقالوا: نطلب الرزق، فقال: إن علمتم في أي موضع فاطلبوه. قالوا : فنسأل الله تعالى ذلك. فقال: إن علمتم أنّه ينساكم فذكّروه. قالوا : ندخل البيت ونستجير. فقال: التجربة شك. قالوا : فما الحيلة. قال: ترك الحيلة. وسئل عن الشفقة، قال: هي أن تُعطي من نفسك ما يطلبون، ولا تحمّلهم ما لا يطيقون، ولا تخاطبهم بما لا يعلمون. وقال: كن كالأرض يطرح عليها كلّ قبيح ولا تخرُج إلا كلّ مليح. وسُئل الجنيد رحمه الله تعالى لم سمّي الشّاهد شاهدًا؟ فقال: الشّاهد الحقّ، شاهدًا في ضميرك، وأسرارك، مطّلعًا عليها، وشاهداً لجماله في خلقه وعباده، فإذا نظر النّاظر إليه شهد علمه بنظره إليه. وقال: من عرف ربّه هانت عليه العبوديّة. وقال: أيضًا: إنّ الله تعالى أراد من العباد عِلمين: معرفة العبودية، ومعرفة الربّوبية، وما سواهم فحظّ أنفسهم. وسئل عن حقيقة العبودية. قال: إذا رأى الإنسان الأشياء ملكاً لله، ومن الله ظهورُها، وبالله قيامُها، وإلى الله مرجعُها، فإذا تحقّق ذلك نال صفوة العبودية. وقال: الصّادق يتقلّب في اليوم أربعين مرّةً، والمرائي يثبت على حاله أربعين سنة. وقال: أيضاً: اليقين هو استقرار العلم الّذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغيّر في القلب. وقال: المسير من الدّنيا سهل هيّن على المؤمن، وهجر الخلق في جنب الله شديد، والمسير في النّفس إلى الله شديد، والصّبر مع الله شديد. وسئل عن الصّبر. فقال: تجرّع المرارة من غير تعبيس. وقال: من أراد أن يسلم له دينُه، ويستريح بدنُه وقلبه، فليعتزل عن النّاس فإن الزّمان زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة. وقال: مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخُلطَة. وسئل عن الخشوع؟ فقال: تذلّل القلوب لعلاّم الغيوب. وسئل عن التّواضع؟ فقال: خفض الجناح ولين الجانب. وقال: الإنس بالله ارتفاع الحشّمة مع وجود الهيبة. وقال: أيضًا: إنّ أوّل ما يحتاج إليه العبد من عقد الحكمة معرفة المصنوع صانعه، والمُحدَث، كيف كان إحداثه فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المُحدَث ويذلّ لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته. فإنّ من لم يعرف مالكَه لم يعترف بالمُلْك لمن استوجبه. وسئل عن التّوحيد؟ فقال: إفراد الموحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحدّيته وقال: أيضًا: التّوحيد علمك وإقرارك بأنّ الله فردٌ في أزليّته، لا ثاني معه ولا شيء يفعل فعله. ومِنْ حِكَمِه: الإخلاص سرّ بين العبد وربّه لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيُهلكه. وقال: بنيّ الطّريق على أربع: لا تتكلّم إلاّ عن وجود، ولا تأكل إلاّ عن فاقة، ولا تنم إلاّ على غلبة، ولا تسكت إلاّ عن خشية. وقال: التّوبة على ثلاثة معان: أوّلها. النّدم، والثّاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهي الله عنه، والثّالث: السّعي في أداء المظالم. وقال: ما نجا من نجا إلاّ بصدق اللّجا أي الالتجاء. وقال: الزّهد خلو القلب عمّا خلت منه اليد. وقال: الزّهد خلو اليد من المُلك، والقلب من التتّبع. وسُئل عن الخوف؟ فقال: هو توقّع العقوبة مع مجاري الأنفاس. وقال: النّفس الأمّارة بالسّوء هي الدّاعية إلى المهالك، المعينة للأعداء، المتبعَة للهوى، المُتِمة بأصناف الأسواء. وقال: الشّكر فيه علّة، لأنّه طالب لنفسه المزيد، فهو واقف مع الله سبحانه على حظ نفسه. وقال: الشّكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنّعمة. وقال: الرّضا رفع الاختيار. وسئل الجنيد رحمه الله عن المريد والمُراد فقال: المريد تتولاّه سياسة العلم، والمُراد تتولاّه رعاية الحقّ سبحانه. وسئل عن الحياء؟ فقال: رؤية الآلاء، ورؤية التقّصير، فيتولّد من بينهما حالة تسمّى الحياء. وقال: إنّك لن تصل الى صريح الحريّة، وعليك من حقيقة العبودية بقيّة. وسئل عن الفتُوة أي المروءة فقال: أن لا تنافر فقيرًا أي لا تُفاخر، ولا تُعارض غنيًّا اي لا تجانب. وقال: الفتوّة؟ كفّ الأذى وبذل النّدى أي الجود والخير والفضل. وقال رضي الله عنه: يا معشر الفقراء إنّكم تُعْرفون بالله وتُكْرَمون لله، فانظروا كيف تكونون مع الله إذا خلوتم به. وسئل عن التصوّف. فقال: هو أن يميتك الحقّ عنك ويحييك به. وقال: الصوفيّ كالأرض يطؤها البَرّ والفاجر، وكالسّحاب يُظل كل شيء وكالقطر يسقي كل شيء، وقيل: قل لا إله إلاّ الله. فقال: ما نسيته فأذكره. وقال:

حاضر في القلب يعمره                       لست أنساه فأذكره

فهو مولاي ومعتمدي                          ونصيبي منه أوفره

وسئل عن المحبّة؟ فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحبّ. وسئل من أي شيء يكون بكاء المحبّ إذا لقي المحبوب؟ فقال: إنّما يكون ذلك سرورًا به، ووجدًا من شدة الشّوق إليه. وسئل الجنيد عن الصوفيّة من هم؟ فقال: أثرة الله في خلقه يخفيها إذا أحبّ، ويظهرها إذا أحبّ. وقال: الفقير الصادق أن لا يسأل ولا يعارض، وإن عُورض سكت. وسُئل عن الصّبر. فقال: حملُ المؤن لله تعالى حتّى تنقضي أوقات المكروه. وأعنى بالمؤن الشدائد. وسئل عن التوكل فقال: اعتماد القلب على الله تعالى. وقال الجنيد رحمه الله: اعلم إنّ الله سبحانه يقرُبُ من قلوب عباده على حسب ما يرى من قُرب قلوب عباده منه، فانظر ماذا يقرب من قلبك. وقال: ما من أحد طلب أمرًا بصدق وجدّ إلاّ أدركه. وإن لم يدرك الكلَّ أدرك البعض. وقال: اتّفق أهل العلم على أنّ أصولهم خمس خلال: صيام النهار، وقيام الليل، وإخلاص العمل، والإشراف على الأعمال بطول الرِّعاية، والتوكّل على الله في كل حال. وسئل عن الإخلاص فقال: ارتفاع رؤيتك، وفناؤك عن الفعل. وسئل أيضًا عن الإخلاص. فقال: إخراج الخلق من معاملة الله تعالى، والنّفس أوّل الخلق. وسئل الجنيد رحمه الله تعالى: أَيُّما أتمّ؟ الاستغناء بالله تعالى، أم الافتقار الى الله عزّ وجلّ. فقال: الافتقار الى الله عزّ وجلّ موجب للِغَنَاء بالله عزّ وجلّ. فإذا صحّ الافتقار الى الله عَزّ وجَلّ كَمُلَ الغَنَاء بالله تعالى، فلا يُقال: أيُّهما أتمّ لأنّهما حالان لا يتمّ أحدُهُما إلاّ بتمامِ الآخر. ومن صحّح الافتقار صحّح الغَنَاءُ. وسئل عن الظَّرْف أي الكياسة ما هو؟ فقال: اجتناب كلّ خلق دنيّ، واستعمال كلِّ خلق سنيّ، وأن تعمل لله، ثمّ لا ترى أنّك عملت. وقال: الكريم من لا يحوجُك إلى وسيلة. وقال: النيّة تصوير الأفعال.

 

وقال رجلٌ للجنيد رضي الله عنه: يا أبا القاسم هل رأيتم ربّكم حين عبدتموه أم أعتقدتم الوصول إليه بقلوبكم. فقال الجنيد: أيّها السّائلُ ما كنّا لنعبد ربًّا لا نراه، وما كنّا بالّذي تراه أعيننا فنشبّهه، وما كنّا بالّذي نجهله فلا ننزّهه. فقال له الرّجل فكيف رأيتموه؟ فقال له: الكيفيّة معلومة في حقّ البشر. مجهولة في حقّ الربّ. لن تراه الأبصار في هذه الدّار بمشاهدة العيان، ولكن تعرفه القلوب بحقائق الإيمان، ثمّ تترقى من المعرفة إلى الرؤية بمشاهدة نور الإمتنان. فهو سبحانه مرئي بالحقائق القدسيّة منزّه عن الصّفات الحدثيّة، مقدّس بجماله، منعوت بكماله، متفضل على القلوب بمواهبه ونواله، معروف بعدله، منعوت بفضله، فلمّا سمع الرّجل مقالة الجنيد قام وقبّل يده وتاب، ولازمه حتّى ظهر عليه الخير، ولزم صحبته حتّى مات رحمةُ الله عليهما.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

تصنيفات أخرى