رأى سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى ان الدستورُ لا يُؤخَذُ بعين الاعتبار، ولا الاستحقاقاتُ تُحترَم، ولا الخطابُ السياسيُّ يُطمئِنُ المواطنينَ؛ المقيمينَ والمغتربين، لِما فيه من استخفافٍ ومكابرةٍ وتحدٍّ وتهديد، ولا أموالُ الناس وأرزاقُهم بمأمنٍ من السرقة والخَسارة، حتى أصبحنا في وضعٍ غيرِ طبيعيٍّ: دولةً بِلا رئيس، وبرلماناً غيرَ متماسِكٍ، وحكومةً مكبَّلة، ومواقعَ حسَّاسةً شاغرةً في العديد من الادارات ممَّا يُشكِّلُ خللاً ميثاقيَّاً وإداريّاً، وقضاءً متَّهماً بالانحياز والولاء السياسي، وبعضُ القادةِ عاجزون أو مغلوبٌ على أمرِهم”.
كلام سماحة الشيخ أبي المنى جاء خلال خطبة عيد الفطر المبارك بعد أداء صلاة العيد في مقام الامير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي في عبيه، بمشاركة عدد كبير من المشايخ والفاعليات الروحية والاجتماعية وقضاة من المذهب ومديرين ورؤساء لجان وأعضاء ومستشارين في المجلس المذهبي ومشيخة العقل.
ومما جاء في خطبة سماحة شيخ العقل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِ المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرينَ وعلى أنبياءِ الله الأصفياء أجمعين.
المشايخُ الأجلَّاء، معشرَ الإخوانِ الأعزَّاء، أيُّها المسلمونَ الصائمونَ عن الأهواءِ والمُفطِرون على الطاعات والحقائق، أيُّها الأحبَّةُ…
أمّا وقد بلغنا غرَّةَ شهرِ شوّال، وحلَّ الفطرُ علينا وعلى سائر المسلمينَ عيداً سعيداً، فمن الواجب أن نحمدَ الله سبحانه وتعالى على نعمة الشهر الفضيل الذي “أُنزل فيه القرآنُ هدًى للناس وبيّناتٍ من الهدى والفُرقان”، والذي فُرض على المسلمين صيامُه شهراً كاملاً: “صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته”، ليكونَ بمثابة فُسحةٍ وفرصةٍ لنيل الخيرات وتزكية النفس بالصبر والالتزام والتآلف والتحابب وبذل الصدقات والارتقاء في معارج التوحيد والإنسانية.
لقد كُتبَ الصيامُ على المسلمين كما كُتب على الذين من قبلهم لعلّهم يتّقون، تأكيداً من الله عزّ وجلّ بأن التقوى هي الغاية، وأن الصيام فريضةٌ تساعدُ على تحقيق هذه الغاية التي أُنزلَ الكتابُ هُدىً لأصحابها: “ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمتّقين”، …”أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتَّقون”. فالصيام آيةٌ من آياتِ الله وفريضةٌ من فرائض الإسلام: “يُبيِّنُ اللهُ آياتِه للناس لعلّهم يتّقون”. تلك الآيةُ المُنزلَةُ والفريضةُ الموجِبةُ لا ريبَ فيها ولا اعتراضَ عليها ولا استهتارَ بفائدتها، بل هي منحةٌ للمؤمن لتهذيب أخلاقه وترويض نفسه واستشعار خالقه، وهي عُدّةٌ من عُدَدِ المسافرة في درجات معرفته، ومحطةٌ سنوية لمحاسبة النفس وتزكيتِها وإعادةِ شحنها بطاقات الخير والامتثال وحسنِ الولاء وصِحةِ الاعتقاد والعمل الصالح، وتلك هي التّقوى.
في كلِّ عام يتجدّد الشهرُ المبارك، كما الفطرُ السعيد، ومعَ هذا وذاك تتجدّدُ ولادةُ الأمل في النفوس وفي المجتمعات والأوطان، وكأنّ أبوابَ التوبة والاستغفار تُفتحُ واسعةً أمام المؤمنين، والطرقَ إلى جنَّة الرحمن تُعبَّدُ بالطاعات والتضحيات والعبادات الصادقة، وتُفرَشُ سُبُلُها بأصناف القيم وأنواعها؛ من التسامح والمحبة والرحمة والأخوَّة، ومن الصبر والحِلم والزهدِ والقناعة والعدل والشجاعة الحقيقية؛ شجاعةِ التوبة والاعتراف، وشجاعةِ المواجهة والتصدّي للأهواء والأنانيات والشهوات والأحقاد التي تدمِّر النفسَ الإنسانيةَ وتَقضي على المجتمعات والأوطان.
وكما يتردَّدُ الدعاءُ في كلِّ يوم وليلة من أيام وليالي شهرِ رمضانَ المبارك: “اللهمَّ أعطنا خيرَ هذا اليومِ وخيرَ ما فيه، وٱصرِف عنَّا شرَّه وشرَّ ما فيه، اللهمّ اكتُبْ لنا فيه كلَّ خير، واجعلنا من عبادك المغفورِ لهم، اللهمّ ٱرحمنا وارحمْ موتانا، اللهمّ تقبَّلْ منَّا الطاعات وٱغفِرْ لنا الخطايا والسيئات”، كذلك يتردّدُ الدعاءُ صبيحةَ الفطر السعيد، دعاءً صاعداً من القلوب: “اللهمّ أعطِنا اللطفَ والرحمة، وٱمنع عنّا البطشَ والنِقمة، وٱرزِقنا رزقاً حلالاً بمعرفتك وطاعتِك، ولا تُزِغْ قلوبنا بعدُ إذ هديتَنا، وهَبَنا من لدُنك رحمةً، إنك أنت الوهَّابُ وأنت أرحمُ الراحمين”.
ليس هناك أجدرُ من المؤمنين بالدعاء والتوسُّل لعزَّته تعالى، ولا من رحابةٍ أوسعُ من الشهر الفضيل وليلةِ القدر فيه ولا من هذا الصباح المبارك، وهذا المكانِ الطاهر، لنرجوَ صادقين مخلصين أن يعمَّ الخيرُ والسلامُ والوئامُ مجتمعَنا اللبنانيَّ وأوطانَنا العربية والإسلامية والعالم، وأن تزولَ تلك المآسي المتنقّلةُ من مكانٍ إلى مكان، بدءاً من فلسطينَ الجريحةِ المغتصبة والقدسِ الشريف بمسجدِها الأقصى المبارَك وكنيسة القيامة فيها، المحاصَرين بصلف العدوان وفجور الاحتلال، وصولاً إلى سوريا والعراق واليمن، فالسودان حديثاً، وإلى كلِّ مكانٍ على خريطة العالَمِ تُقتَلُ فيه الحريةُ والكرامةُ الإنسانية، شرقاً وغرباً، وتتغلَّبُ فيه قوى الشرِّ على قوى الخير، وتَنتشرُ أسلحةُ الدمار والإبادة، وتسودُ فيه شريعةُ الظلمِ والاستبداد والقهر، وتتحوّلُ فيه لغةُ الجهاد والسلام إلى لغة الإرهاب والإجرام.
رجاؤُنا الصادقُ المنطلقُ من بركة العيد ورسالةِ التوحيد أن تنتصرَ الدعواتُ المناديةُ بالمحبة والرحمة والسلام، بدلاً من انتصارِ منطق التحدّي والقوّة والاستكبار، وأن تتكلّلَ بالنجاح مساعي التلاقي والتقارب التي تلوحُ في أفق المِنطقة، فتُعادُ الحقوقُ إلى أهلِها، ويعودُ اللاجئون والنازحون إلى أوطانهم آمنينَ مكرَّمين، وترتفعُ عن كاهل لبنانِنا الحبيب أثقالُ العُدوانِ من هنا والنزوح من هناك وتنكفئُ التدخلاتُ السلبيةُ من هنا وهناك، وتزولُ الأسبابُ والذرائعُ من أمام المسؤولينَ المخلصين وتُغلَقُ الأبوابُ في وجه العابثينَ بالوطن وأمنه وأمانه وٱقتصاده وكيانه وعيشِ أبنائه، وتلتقي الاراداتُ الصادقةُ للإصلاح والإنقاذ، بتغليب مصلحةِ الشعب والوطن على أهواءِ الجماعات وأحلام المقامرين وأطماعِ المستهترين بألم العِباد ووجع البلاد.
إن كلَّ لبنانيٍّ مخلصٍ يتساءلُ متحسّراً: ألم يحُنِ الوقتُ لاستفاقة الضمائر؟ ألم يُدركِ المتمسِّكون بمواقفِهم وأطماعِهم وأنانياتِهم أنّ البلادَ أصبحت على حافةِ اليأس والانهيار، بل في هاوية الضَّياع والفشل؟ وأنَّ الناسَ على مشارفِ ثورةٍ شاملةٍ مُحقَّةٍ، إذ لم يعُد هناك من قدرةٍ على احتمال التدهور الاقتصادي والمالي، ولم يبقَ لدى الناس من أملٍ بحكّامِهم ودولتِهم، فلا الدستورُ يُؤخَذُ بعين الاعتبار، ولا الاستحقاقاتُ تُحترَم، ولا الخطابُ السياسيُّ يُطمئنُ المواطنينَ؛ المقيمينَ والمغتربين، لِما فيه من استخفافٍ ومكابرةٍ وتحدٍّ وتهديد، ولا أموالُ الناس وأرزاقُهم بمأمنٍ من السرقة والخَسارة، حتى أصبحنا في وضعٍ غيرِ طبيعيٍّ: دولةً بِلا رئيس، وبرلماناً غيرَ متماسِكٍ، وحكومةً مكبَّلة، وادارات حسَّاسةً شاغرةً في العديد من المواقع ممَّا يُشكِّلُ خللاً ميثاقيَّاً وادارياً، وقضاءً متَّهماً بالانحياز والولاء السياسي، وبعضُ القادةِ عاجزون أو مغلوبٌ على أمرِهم، وبعضُهم يتصرَّفون بترَفٍ وكأنَّ البلدَ في نعيم، أو كأنَّ لا قضيَّةَ للدول وللعالم إلَّا قضيتَنا، ولا همَّ عند المجتمع الدولي إلَّا أن يُسرِعَ لاهثاً لمساعدةِ لبنانَ وإنقاذه، بينما يتلهّى كبارُ القومِ بإذلال صغارِه، ويعتادُ شعبُه ومؤسساتُه للأسف على “صناديق الإعاشة”، وعلى دعم الأصدقاء والأشقّاء والمنظّمات العالمية والدول ذاتِ المصالح.
ولكي نكونَ منصِفين، لا يسعُنا إلّا أن نعبِّرَ عن تقديرِنا لبعض المبادرات من بعض المسؤولين لمعالجة بعض القضايا في خضمِّ هذا الواقع المرير، أكان في هذه الوزارة أو في تلك الإدارة، وفي هذه الجهةِ السياسيةِ أو تلك، إلَّا أنَّها تبقى عاجزةً عن تحقيق الإصلاح المنشود والشِفاء الموعود، ولكنَّها تُبقي جُذوةَ الأمل متّقدة، فلا يتمكّنُ اليأسُ من أهلِنا، ولا نَفقِدُ الثقةَ بأنفسِنا، ولا يغيبُ عن بالِنا أننا قادرون على النهوض متى أردنا، وأنّ لدينا من المقوِّمات الفرديّة والجماعيّة ومن الطاقات والكفاءات ومن التراث والقيَم والإيمان ما يكفي لاتّخاذ المبادرة واستعادة الدور وتصويب المواجهة.
إنَّ العلاجَ يبدأ من الداخل قبل الاستعانة بالخارج، والإصلاحَ يُبنى على أُسسٍ ومبادئَ ثابتة، لا على رمالِ السياسة المتحرِّكة، وأوَّلُ تلك الأُسسِ تعزيزُ الإيمان في القلوب والعقول، وترسيخُ القيَم والفضائل في النفوس والعائلات، واحترامُ الشراكة الاجتماعية والوطنية، والحفاظُ على مقوِّمات العيش الآمن المشترَك، واحترامُ الدستورِ، وصونُ الحريات العامّةِ والخاصّة، واحترامُ الصيغة اللبنانيةِ القائمة على التنوّع في الوحدة وعلى المواطَنةِ الحاضنةِ لهذا التنوُّع.
وكما في الوطن، كذلك في البيت التوحيديِّ الداخلي، حيث الجميعُ مدعوّونَ لجمع الشَّمل ورأب الصَّدع أينما وُجِد، وللتواضعِ الفعليّ والتخلّي عن الأنا القاتلة، والترفُّعِ عن الغرضيات والخلافات والمناكفات، والسعيِ الدؤوب لتقوية اللُحمة في الجسم الديني، والعملِ معاً على مستوى النخبة من رجال الأعمال والشباب وأصحاب الطاقات المالية والعلمية والثقافية والاجتماعية لإطلاق مسيرةِ نهوضٍ وإبداع، من خلال مبادراتٍ استثمارية مفيدة ومشاريعَ إنمائيةٍ مُنتجة وبرامجَ اجتماعيةٍ مُنظَّمة، علماً أنّ مسيرةَ الألفِ ميل تبدأ بخطوةٍ أُولى مدروسةٍ وجريئة، وكلُّنا أملٌ بأن تتضافرَ الجهودُ وتتّسعَ دائرةُ الأمل والثقة والتعاون، في كلِّ عائلةٍ وقريّةٍ ومنطقة، وفي المجتمع بأسرِه، وفي كلّ الوطن، فالاجتماع خيرٌ من الافتراق، والتكاملُ أنجعُ وأقوى لنجاح الأُمّةِ وازدهار الوطن، على قاعدة القول المأثورِ شعراً:
“تأبى العِصيُّ إذا اجتمعنَ تكسُّراً وإذا افترقنَ تكسَّرتْ آحادا”
اللهمَّ أعِنّا على الاجتماع وجنّبنا الافتراق، وخُذ بأيدينا إلى ما هو أسمى وأرقى في مسيرتِنا الروحيةِ والاجتماعية والوطنية، علَّنا نبلغُ العيدَ الحقيقيَّ والسعادةَ الحقَّة، ولك الحمدُ اللهمَّ في كلِّ بَدءٍ وفي كلِّ خِتام، ولكم جميعاً أطيبُ المباركة والتهاني وأخلصُ الدعاءِ والأماني.
وكلُّ عامٍ وأنتم بخير، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.