قيل لم يخرج أبو يزيد من الدّنيا حتّى استظهر القرآن كلّه. وقال: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتّى يتربّع في الهواء، فلا تغتّروا به حتّى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنّهي وحفظ الحدود وآداء الشريعة. وقال: أيضًا رأيت ربّي عزّ وجلّ في المنام فقلت كيف أجدك، فقال: فارق نفسك وتعال. وقيل إنَّ أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له. فقال: له صاحبه: نُعلق الثوب في جدار الكرم، فقال: لا. لا تغرز الوتد في جدار النّاس. فقال: نعلّقه في الشجر. فقال: لا، إنّه يكسر الأغصان. فقال: نبسطه على الإذخِر (أي الحشيش الأخضر). فقال: لا، إنّه علف الدّواب لا نستره عنها، فولّى ظهره الى الشمس والقميص على ظهره حتّى جفّ جانب. ثمّ قلبه حتى جفّ الجانب الآخر. وقيل: إنّ أبا يزيد دخل يومًا الجامع، فغرز عصاه في الأرض فسقطت ووقعت على عصا شيخ بجنبه ركّز عصاه في الأرض فألقتها، فانحنى الشيخ وأخذ عصاه، فمضى أبو يزيد الى بيت الشيخ واستحلّه(1)، وقال: كان السّبب في انحنائك تفريطي في غرز عصاي حيث احتجت إلى أن تنحني. وقيل لأبي يزيد متى يكون الرّجل متواضعًا؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالاً، ولا يرى أنّ في الخلق من هو شرٌّ منه. وقيل لأبي يزيد بم وصلت الى ما وصلت إليه؟ فقال: جمعت أسباب الدّنيا فربطّتها بحبل القناعة، ووضعتها في منجنيق الصّدق، ورميت بها في بحر اليأس فاسترحت. وسئل: عن العارف فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله، ولا يوافق غير الله، ولا يطالع غير الله. وقال: إنّ لله عبادًا لو حجبهم في الجنّة عن رؤيته لاستغاثوا من الجنّة كما يستغيث أهل النّار من النّار. وقال: الله تعالى لأبي يزيد تقرّب إليّ بما ليس لي. قال: يا ربّ وما ليس لك؟ قال: الذّلة والافتقار. وسئل عن صفة العارف. فقال: لون الماء لون إنائه. إن صببته في إناء أبيض خلته أبيض، وإن صببته في إناء أسود خلته أسود وكذلك الأصفر والأحمر وغير ذلك، تتداوله الأحوال ووليّ الأحوال وليّه وقال: من لم ينتفع بسكون المتكلّم لم ينتفع بكلامه. وقيل مات أبو يزيد ولم يترك إلاّ قيمصه الّذي مات فيه. وقال: أيضًا أثنيت على رجل من المريدين عند بعض العلماء خيرًا فقال العالم: من أين معاشه؟ فقلت: لم أشكّ في خالقه حتّى أسأله عن رازقه، فخجل العالم وانقطع. وقال: غلطت في بداية أمري في أربعة أشياء: توهّمت أنّي أذكره وأعرفه وأحبّه وأطلبه. فلمّا انتبهت رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته سبقت معرفتي، ومحبته أقدم من محبّتي وطلبه لي أوَّلاً حتّى طلبته، وقال: أيضًا إنّ مفتاح الجنّة كلمة التّوحيد، وله أسنان أربع لا ينفتح الباب إلاّ بها: السّن الأوّل تطهير القلب من الشك والشرك والخيانة. السّن الثاني تطهير اللسان من الكذب والغيبة والنميمة. السنّ الثالث تطهير البطن من الحرام والشبهة، السّن الرّابع تطهير العمل من العجب والرّياء والبدعة. وقيل له بم نلت هذه المرتبة؟ قال: بسبع كرامات الأوّلة: رأيت نفسي متأخّرة ورأيت الخلق سبقوني. والثانية: بذلت نفسي وجهدي في ادخال السرور على قلب المؤمن، والثالثة: أزلت الغمّ من قلبي والرّابعة: لم أمسك شيئًا لغد. والخامسة: أردت الجنّة للنّاس أكثر ما أردتها لنفسي. والسادسة: أبدأ بالسّلام لمن لقيني من المؤمنين شفقة عليه. والسابعة: إن غفر الله لي يوم القيامة أبذل شفاعتي لمن أذلّني وجفاني ثمّ لمن أبّرني وأكرمني. وقال رضي الله عنه: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي إلى أن سقتها إليه وهي تضحك. فمن عرف الله أذلّ له كل شيء. وحكي عن أبي يزيد رضي الله عنه أنّه عبد الله تعالى سنين كثيرة فلم يجد للعبادة طعمًا ولا لذّة، فدخل على أمّه وقال لها: يا أمّاه إنّي لا أجد للعبادة ولا للطاعة حلاوة أبدًا، فانظري هل تناولت شيئًا من الطعام الحرام حين كنت في بطنك أو حين رضاعتك، فتفكرت طويلاً ثم قالت له يا بنيّ لمّا كنت في بطني صعدت فوق سطح فرأيت إجّانة (أي جرّة كبيرة) فيها جبن فاشتهيته فأكلت منه مقدار أنمُلة بغير إذن صاحبه. فقال أبو يزيد: ما هو إلاّ هذا. فاذهبي الى صاحبه وأخبريه بذلك. فذهبت إليه وأخبرته بذلك، فقال لها: أنت في حلّ منه، فأخبرت ابنها بذلك فعندها ذاق حلاوة الطاعة. وقيل إنّه دخل عليه ثلاثة من العارفين ففرِح بهم وأكرمهم، ثمّ أتى بقدح عسلٍ وعلى رأس القدح شعرةٌ، فوضعه بين أيديهم فسكتوا متفكّرين. فقال: أحدهم العقل أصفى من هذا القدح، والعلم أحلى من هذا العسل، والصدق أخفى من هذه الشعرة، وقال الثاني : الجنّة أصفى من هذا القدح، ونعيمها أحلى من هذا العسل، والصّراط أدقّ من هذه الشعرة. قال الثالث: الإسلام أصفى من هذا القدح، وحلاوة الطاعة أحلى من هذا العسل، والورع أدق من هذه الشعرة. هذا ما عندنا يا أستاذ أنت ما عندك؟ فقال أبو يزيد : عندي إنّ المعرفة بالله أصفى من هذا القدح، ومحبّة الله أحلى من هذا العسل، والخوف من الله أدقّ من هذه الشّعرة، وتقارقوا على هذا الكلام، تمّت الموعظة والسلام. وقيل له رضي الله عنه بماذا بلغت إلى ما بلغت؟ قال: عملت أشياء أولّها: اتخذته سبحانه معلّمًا فقلت إن لم يكْفِك ربّك لم يكفك غيره في السّموات والأرض، وشغلت لساني بذكره، وبدني بخدمته كلّما أعيت جارحة رجعت إلى الأخرى. وقيل له رضي الله عنه بم نلت ما نلت؟ فقال: انسلخت عن نفسي كما تنسلخ الحيّة من جلدها. وقال: علامة الانتباه خمسة: إذا ذكر نفسه افتقر، وإذا ذكر حوبته (أي إثمه) استغفر، وإذا ذكر الدّنيا اعتبر، وإذا ذكر الآخرة استبشر، وإذا ذكر المولى افتخر. وقال: كمال العارف احتراقه بحبّه لربّه، وقال رضي الله عنه: أحببت الله تعالى حتّى أبغضت نفسي، وأبغضت الدّنيا حتّى أحببت الله، وتركت الدّنيا حتّى وصلت بالله، واخترت الخالق على المخلوقين حتّى أنست به، وقال: خرجت إلى الحج فرأيت في الطريق رجل أسْودَ، فقال: لي يا أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى مكّة . فقال: الّذي تطلبه تركته ببسطام وأنت لا تدري، تطلبه وهو أقرب إليك من حبل الوريد. وسئل رضي الله عنه فقيل له إنّ النّاس يقولون أن لا إله إلاّ مفتاح الجنّة قال: صدقوا ولكن لا يفتح المفتاح بغير مغلاق. ومغلاق لا إله إلاّ الله أربعة أشياء: لسان بغير كذب ولا غيبة، وقلب بغير مكر ولا خيانة، وبطن بغير حرام ولا شبهة، وعمل بغير هوى ولا بدعة. وقال: العارف لا يكدّره شيء ويصفو له كلّ شيء. وقيل إنّه كان يعظ نفسه فيصيح عليها ويقول يا مأوى كل سوء أنت قاعدة منذ عشرين وثلاثين سنة بعدما طهرت فمتى تطهرين؟ إنّ وقوفك بين يدي الطاهر ينبغي أن يكون طاهرًا. وسئل ما علامة العارف؟ قال: أن لا يفتر من ذكره، ولا يملّ من حقه. ولا يستأنس بغيره. وقال: حسب المؤمن من عقله ان يعلم بأن الله غنيّ عن عمله. وكان يقول: يا من باع كل شيء بلا شيء، ويا من اشترى لا شيء بكل شيء. إنّ في طاعتك من الآفات ما يشغلك عن السّيئات. وسئل عن التّصوف فقال: طرح النفس بالعبوديّة، وتعلّق القلب بالربوبيّة واستعمال كلّ خلق سنيٍّ والنظر إلى الله بالكليّة. وقال: رضي الله عنه لخادمه أبي موسى: أوصيك بإقبالك على ربّك أيّام حياتك بكليّتك، ولا تُوَلّ عنه وجهك إلى وقت فإنّ نواصيكم بيده، وأنه لا بُدَّ من لقائه، والوقوف بين يديه، وأنت مسؤول عن جميع أعمالك، فشمّر لذلك واستعدّ لمعادك، ولا تغفل، وانتبه من رقدة الغفلة، وتيقّظ من نومة الغافلين، وألق كتفك بين يديّ سيدِك كل صباح ومساء، والزم ذكره، واحفظ خدمته، وأحسن ظنّك به، ولا تؤثر أحدًا عليه، واصبر على ما أصابك من البلاء، وارض بحكمه وقضائه وقدره، وبحسن اختياره لعبده، واقنع بعطيته، وثق به، وآمِنْ لموعده، وأيقن بوعده ووعيده، وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت واذكر الله، واستعن بالله في كل أمورك، واحذر منه ما دُمت حيًّا، واهرب من الخلق إليه، وفوّض أمرك إليه. وقال: محال أن تعرفه ثمّ لا تحبّهُ. وقال: من لزم العبودية لزمه اثنان: يأخذه الخوف من ذنبه، ويفارق العجب من عمله. وقال: علامة العارف خمسة أشياء: أوّلها يقيم على باب ربّه لا يرجع عن باب البرّ، ويقبل إليه ولا يلتفت إلى شيء يحجبه عنه، ويكون دورانه وسيره في مجرّة أنس ربّه وحول مناجاته، لا يرضى من نفسه أن يشتغل بشيء دون الله عزّ وجلّ، ويكون فراره من الخلق إلى الخالق، ومن جميع الأسباب الى ولي الأسباب. فمن عرف الله فإنّه يزهد في كل شيء يشغله عنه. وسُئل بماذا يستعان على العبادة؟ فقال: بالله، إن كنت تعرفه، وقال: ذكر الله باللّسان غفلة. وقال: حسبك من التوكل أن لا ترى لنفسك ناصرًا غيره، ولا لرزقك خازنًا غيره، ولا لعملك شاهدًا غيره. وقيل له ما أعظم آيات العارف؟ فقال: أن تراه يؤآكلك ويشاربك ويمازحك ويبايعك وقلبك في ملكوت القدس. وقيل له متى يبلغ الرّجل مقام الرّجال في هذا الأمر؟ قال: إذا عرف عيوب نفسه، وقويت همّته عليها. وقال: من عرف الله يزهد في كل شيء يشغله عنه. وقال: ليس العجب من حبّي لك وأنا عبد فقير، وإنّما العجب من حبّك لي وأنت ملك قدير. وقال: إنّ العبد المؤمن مفتوح له في قلبه رَوْزَنة يشاهد منها جلال الله وجماله ويتلذّذ بتلك المشاهدة، لكن مع تلك التلذّذ مسلّط على بدنه حيّات وعقارب وزنابير تلدغ في جسده، فتشغله تلك الحيّات والعقارب والزّنابير عن كمال التلذّذ بمشاهدة جلال الله، وما دام الجسد فيه شيء يلدغه ما يتلذّذ القلب بتلك المشاهدة لذّة كاملة، فالحيّات والعقارب والزّنابير هي الشهوات البدنيّة والأغراض الجسمانيّة، والحسد والعُجبُ والكِبر والرّياء والنّفاق والتهاون في الواجبات. فكلّ هذه شواغل عن الالتذاذ بمشاهدته تعالى لأنّ العبد ما دام مشغولاً بلذّة جسمانية فهو محجوب عن الله بقدر ذلك الشغل، فإذا زاد الاشتغال زاد الحجاب حتّى يعمى بالكليّة، أعاذنا الله من ذلك ولجميع أخواننا بمنّه وكرمه. وسئل أيضًا عن قوله تعالى: “ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ وهو رابعُهم” إلى قوله: “إلاّ وهو معهم أين ما كانوا” فقال: المعيّة هنا كما أنّ خيال العبد في المِرآةِ ما ينفصل عنه طرفة عين ولا يفارقه ولا يتحيّز ولا له ثقل ولا حِسّ، كذلك الله تعالى مع العبد. وقال: وهو أقرب إليه من حبل الوريد. فَمبقدار الصفا في قلب المؤمن وتنقيته وتجريده من الكدورات والأخباث يكون شعوره بحضور ربّه، لأنّه قال: لا يسعني شيء ويسعني قلب عبدي المؤمن، فإذا كمل صفاء القلب وأقبل بكليّته على معرفة ربّه الذّي هو موجود معه لا يُفارقه طرفة عين، فحينئذ تستغرق صفات العبد في مشاهدة الرّب، وتصير تلك المشاهدة شغل القلب، لا يلتفت إلاّ إليه، ولا يحنّ لسواه. فهذه حقيقيّة المعيّة، وبمقدار الدّرجات في الصّفاء والنّقاء تكون اللّذة والسّعادة في الدّنيا والآخرة. وسئل عن قوله: “إنّا نسيناكم”. قال: فنسيان الله سبحانه للعبد هو أن يحجبه بسبب خبيث عمله، وينساه من الهداية والإنعام، ومن معرفة الحلال والحرام، ولا يُذَكّره بشيء يرتكبه من الخطايا، بل يُهمله على طغيانه، ويستدرجه من حيث لا يعلم، كما ينسى أحد ملوك الدّنيا من غَضِبَ عليه وأودعه في الحبس فنَسِيَه وأهمله وتركه. والمقصود أن الملك نسيه من إطلاقه من الحبس، ومن الإنعام إليه بأمور الدّنيا ومن الرّضى عليه. فنسيه من تلك الصفات المذكورة وهو ذاكره أنّه مودوع في الحبس، لكِن الغضب عليه مستمر. فهكذا الله سبحانه وتعالى ذاكرٌ العبد ذكر علم واطّلاع، لكن نسيه من الرّضى والثّواب والهدى، أعاذنا الله من ذلك. وقال: إنّ العبد مغمورٌ بالإنعام الظاهرة والباطنة، فالإنعام الظاهرة مثل العين والأذن والشمّ والأكل والشّرب واللباس، وغير ذلك مِمّا لا يُحصى، والإنعام الباطنة مثل الفكر والعقل والمعرفة والفهم والعلم والذّكاء ومعرفة الحلال والحرام، والفرق بين العبد والمعبود، وما شاكل ذلك. ذلك مِمّا لا يُحْصَر، كالحوت في الماء مهما سبح وتوجّه عرضًا وطولاً، وغذاؤه ونَشقُ ريحه وجميع تصرفاته، فهو غارق في الماء، لا يخرج عنه طرفة عين، بل هو مغمور به دائم دهره. كذلك العبد في جميع تصرّفاته وأحواله الظاهرة والباطنة فهو غارق في نعمة الله سبحانه كغريق الحوت في الماء. ولو لم يكن على العبد نعمة غير نشقه الهواء لكان فيه أعظم الإنعام، لأنّه لو حُبِسَ عليه الهواء لا يخرج عنه طرفة عينٍ هلك، ولو تأخّر عن إدخاله طرفة عينٍ هلك. فكلّ نشقةِ هواء في دخولها وخروجها فهي نعمة من إنعام الله سُبحانه على العبد. ثمّ إنّ العبد مع جميع ذلك مشتغل بالنعمة عن المنعم، وبغذاء بدنه عن غذاء روحه، ونسي ذاته الشريفة ونسي قمعها عن شهواته الخسيسة، فزاده الله تعالى من ذلك عمى. كما قال تعالى: “في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا”. أعاذنا الله من ذلك. وقال: إذا توجّهت الرّجال الى أشغال الدّنيا وأحوالها، وجعلوا دأبهم الالتذاذ بمقتنياتها، فيكونون كالصبيان الّذين يغدون في اللّعب واللّهو، فطول نهارهم لهو ولعب، ونصب وتعب، فيعودون إلى أمهاتهم مثقولين بالعَنَاءِ والتّعب، ولم يحصلوا على شيء. فهكذا الرّجال إذا اشتغلوا بأمور الدّنيا وشهواتها فيكونون كالصبيان بل أشرّ وأشدّ حالاً منهم. لأنّ الصبيان يُعذرون لعدم عقولهم، والرّجال ما لهم عذرٌ لكونهم علموا وعرفوا الحق وتعافوا عنه، وانكشف لهم الصّواب، فعدلوا إلى الخطأ، وبُصّروا فلم يُبصروا، وسَمِعُوا فتصامَمُوا، ونُهوا عن الدّنيا فانكبّوا عليها. ومن هو كذلك فيخرُج من هذه الدّنيا عاريًا أصمّ أعمى. وفي الآخرة أشدّ عمَى. وعذاب الله أكبر، ولا يجوز أن يُسمّوا هؤلاء رجالاً ما حصلوا من الدّنيا إلاّ على سراب بلا منفعة، فضلّ سعيُهم في الحياة الدّنيا وهم يَحسبون أنّهم يحسنون صنعًا. وقال: إنّ العجين لا يليق أن يُقدَّم بين أيدي الكرام من النّاس ولا يُوضَع لهم، ولا يَحْضُر موائدهم، فإذا خُبزَ في تنّورٍ على النّار واصطلح وطارت رطوبته وصار خبزًا منشفًا مستويًا فحينئذ يصلح أن يمدّ بين أيادي الملوك وكرام النّاس وغيرهم، ولا يُسْتحى من بسط ذلك الخبز بين أياديهم. فهكذا نفوس المؤمنين لا تصلح أن تعرض بين يدي الملك العلاّم، ولا تُقابل جلاله وجماله، ولا تصلح أن تنظر إليه ولا تجلس في حضرته ما دامت مطموسة بخبائث الأعمال المظلمة، والاعتقادات النَّجسة، والشهوات الزائلة، والغضب الماحي فضائلها، الّتي جميع ذلك بمنزلته الرّطوبة في العجين، وكما أنّ العجين ما تزول رطوبته إلاّ بنار يدخُلها كذلك النّفس لا تزول أخباثها وأكدارها حتّى تُبتلى بالمحن والمشتقّات والصّعوبات، لأنّ بذلك تتهذّب النّفوس وتصفو، ولم يدخلها ربّها في المحن والصّعوبات هوانًا بها بل تشريفًا وتصفية، فإذا تنقّت النّفس من الأخباث جميعها وتجرّدت منها وصفت وراقت، وأخلصت في جميع حالاتها فحينئذ تصلح لمشاهدة ربّها وعبادته، وتشاهد جلاله وجماله، وتتصّل بأنواره ويفيض عليها نعمته وحكمته، ويكون مع كمال صفائها وطهارتها مستعدة لجميع ما يفاض عليها من الأنوار والخيرات، فتقبل ذلك جمعيه، وتكون محلاً لنظرات الربّ جلّ وعلا. وبذلك تسعد السّعد الدّائم وتتنعّم بالجِنان، وتتلذّذ بمشاهدة ذي العزّة والجَلال، جعلنا الله مِمّن تهيّأ لقبول ذلك بفضله وكرمه. وقال: إنّ الشيطان مستقرّ في باب الله لا يتجاوزه أحد إلاّ بعون الله وتوفيقه، وجميع من يقصد بابَ الله يعترضه ذلك الشيطان لأنه كلب طريد، فيعترض النّاس الدّاخلين الى الله ويعقرهم ويهشّمهم، ولا يمكن من الدّخول الى الله، وكلّما رام الدّاخل الوصول الى الله سبحانه وجد ذلك الكلب في طريقه، فيقّر من باب الله خوفًا من ذلك الكلب، لأنّ لا وصول الى الله الاّ من الطريق الّتي ذاك الكلب موكّل بها ولا يُفارِقُها. فلّما علم المؤمن أنّه لا يتّصل الى باب الله إلاّ بمجاوز موقف الشيطان الّذي هو بمنزلة الكلب، وعلم أيضًا أنّه عاجز أن يصل بقوّة نفسه وهمّته، فألقى نفسه بلا حول ولا قوّة، ونادى ربّ البيت الّذي هو مقصد المؤمن نداء المضطر العاجز الفقير البائس الذّليل، واستغاث الى الله سبحانه وسأله بسّره وجهره أن يعينه على وصوله وأن يطرد ذلك الكلب عن بابه حتّى يتجاوزه المؤمن. فلّما علم الرّب سبحانه أنّ ذلك المؤمن لا بدّ له من الحضور بين يديه سبحانه ومشاهدة جلاله وجماله وانبعثت قوّته جميعها بالشوق الكلي الى حضوره في المحل المأنوس وطرد الكلب، وأعان المؤمن ولم يجعل للكلب على المؤمن المجرّد الخالص الفارغ الجهد والعزم سبيلاً، وقهره بعون ربّه واتّصل بالحضرة الإلهية، وشاهد جماله وتلذّذ بذلك فذاك نعيم الأبد. وهذا الكلب هي الظلمة المستولية على الإنسان الّتي هي معه لا تفارقه طرفة عين، وهي العدو الأكبر التي عيّن عليه رسول الله (صلعم) في قوله: رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر. فمجاهدة النّفس هو الجهاد الأكبر، وبعون الله سبحانه وملازمة الأوامر واتباع الحق يقوى المؤمن على قهر ظلمته وشهوته غضبه. فإذا جرّد الإنسان ذاته لجهاد نفسه، واستعان بنور الله سبحانه، واستمدّ من فيضه، وعلم الله صدق همّته، وإخلاص سرّه، وصلاح يقينه، واعترافه أن لا مقدرة له في نفسه على دفع تلك المكائد المستقرّة فيه. فحينئذ يجذبه الرّب برحمته، ويعينه بمنّته، ويخلّصه من كدورات ظلمته وشهوته، ويدينه الى حضرة قدسه، فيكون منعمًا بذلك الخلاص بمشاهدة ربّ الأرباب مكرّمًا مسرورًا مغتبطًأ فرحانًا، متلذّذًا سرمديًّا أبدًا مع ملائكته الكرام ورُسله الصّادقين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإذا علم الشيطان الّذي هو بمنزلة الكلب أنّ المؤمن قد استقرَّ في بيت الله ومشاهدته، وامتلأ قلبه نورًا وحكمة، وظهرت الآثار الرّبانية عليه، فيذّل ذلك الكلب ويخسأ ويخاف من المؤمن لعظم إشراق ضوء شعاع نور الله عليه، وكلّما رآى المؤمن بتلك الصّفات فيهرب منه لغلبة نور الحق عليه، وبذلك يكون قهر الشّيطان ثمّ إنّ ذاك المؤمن لمّا وصل الى الله وقهر الشيطان بعون الله، نهض ذاك المؤمن وأعلم إخوانه وساعدهم على طرد الكلب عنهم أيضًا، فالمؤمنون كلّهم إخوان في الله، لا أحد منهم يرضى أن يكون في سعادة ونعيم وأخوه في شقاء وظلمة. بل الكل متعاونون على البِرّ والتّقوى، مجتهدون على قهر الظلمة والشهوات، وجميع المؤمنين سلسلة لا يقدر الشيطان أن يتناول منهم أحدًا إذا مشت العناية الرّبانيّة فيهم، بواسطة أفكارهم وتجريد هممِهم وعزائمهم. جعلنا الله تعالى منهم بحرمة الملائكة العظام، والرّسل الكرام، عليهم أزكى الصّلوات وأتم السّلام. وقال أيضًا: صفة الإيمان في قلب المؤمن كإنسان ذكر لأخيه تفاحًا في بستان وصدّقه أخوه لعلمه بصدقه، لكن للإيمان درجات، ثمّ توجّه بعد ذلك الرّجل مع أخيه الى بستانه، فلّما وصل الى عند حائط البستان شمّ رائحة التّفاح، فقوي تصديقه لأخيه على وجود التّفاح، ثمّ ترقّى وفُتح له باب البستان، فدخل البستان وشاهد التّفاح بعينه، فكان في خبر اليقين، ثمّ صار الى عين اليقين، ثم بعد خبر التّفاح واستنشاق رائحته ومشاهدته استجناه الى كفّه وذاقه وأطعم منه، فامتزج ذلك التّفاح بلحمه ودمه، ومشى قواه في كل عضو له، فكان بذلك حياته، فهكذا المؤمن إذا حدّثه صادق أنّ له إلهًا قادرًا صانعًا حيًّا قديمًا أزليًّا موجودًا فيصدّقه ويعتقد صحّة ما ذكر، ثم بعد ذلك يرشده رشيد الى مشاهدة أفعاله من إحياء الأموات، وإنزال الغيث والرّحمة واصناف المخلوقات على تنويعها، فيشتد يقينه بوجود الصّانع، ويعلم يقينًا أنّ ما يفعل ذلك إلاّ قدير عليم عادل كمّا أنبأه أوّلاً ذلك الصّادق، ثمّ بعد ذلك يقوى يقينه على مشاهدة ذلك الصّانع العظيم، ويشتّد شوقه إليه، فيرشده معلمه أن لا سبيل الى ذلك إلاّ بعد المجاهدة الكليّة للنّفس وقهر شهواتها من سائر الوجود، فيجتهد عند ذلك بالمَحقِ والإسحاق لتلك الظلمات والشهوات، فإذا فرغ من علاج نفسه وصارت ذليلة تحت أمره، يرقيّه مرشدُه الى مشاهدة جلال وجمال الصّانع تلك المصنوعات والموصوفات ، فإذا عاين ذلك وحقَّقه في سرّه، وامتزج بمعرفته، واتحدّ به صار مؤمنًا، وترقَّى من درجة الإيمان الى درجة الإيقان، كما تزايدت المعرفة عند أكل التّفاح من خبرها الى رائحتها، ثمّ الى نظرها ثمّ الى أكلها وامتزاجها في طبيعته، فيصبح المؤمن بمشاهدة ربّه ميقنًا مصدّقًا أنّه القدير العليم، ثُمّ يُفيض عليه ربّه من أنواره، ويُسبل عليه نعمته ويكون ذلك مسرمدًا له في السّعادة. وقال: إذا نزل ضيف على مُضيِّفٍ تعيّن على المُضيف أنّه يكرمه بضيافتين: إحداهما أن يحضر الى حضرة الضيّف ما كان عنده حاضراً وميسراً ثمّ بعد ذلك يذبح له شاة ويعمل منها طعامًا وضيافة مليحة تليق بالضيف النّازل، فهكذا إذا توجّه العبد الى ربّه بقلبه وخاطره قاصدًا فضله ومشاهدته فيضيّفه الله تعالى إذا علم صدق نيّة العبد، وصالح سريرته، وخالص طويّته بضيافتين. إحداهما بالجنّة ونعيمها، والأخرى أنّه يكشف جلاله وجماله، ويُزيل الحجب بينه وبينه، فيشاهد العبد تلك العظمة وبواهر الآيات، ويكون ذلك نهاية السعادة والنّعيم، فيتلذّذ بالمشاهدة، ويكون جالسًا بسرّه العزيز عند المليك المقتدر، مستأنسًا به مع عُظم جلاله فياله من نعيم ما أعظمه! وسرور ما أكمله! ومن سعد ما أعمّه! فيشتغلُ ذلك العبد بمعبوده، وينسى ظلمته وعدمه بوجوده، ويكون الحكم الأعظم هنالذلك الأنوار المبسوطة على تلك الخواطر المخلوطة، وهذا هو المقصود المطلوب. وحكي عنه رضي الله عنه أنّه قال: جمعت فكري، وأحضرت ضميري، ومثّلت نفسي واقفًا بين يدي المولى جلّت قدرته، فقال: يا أبا يزيد بأيّ شيء جئتني؟ قلت يار بّ بالزّهد في الدّنيا، وقال: يا أبا يزيد إنّما كان مقدار الدّنيا عندي كجناح بعوضة، فبم زهدت فيها؟ قلت: إلهي وسيّدي ومولاي واعتمادي استغفرك من هذه الحالة جئتك بالتّوكل عليك. قال: يا أبا يزيد ألم أكن ثقة فيما ضمنت لك عليّ، فقلت إلهي وسيّدي استغفرك من هاتين الحالتين. جئتك بك. أو قال: جئتك بالذلّة والافتقار إليك. فقال: عند ذلك قبلناك. وقال: أيضًا ليس الرجل من يصوم عن الدّنيا ليفطر في العاقبة على موائد الجنّة، إنّما الرّجل من يصوم عن الدّنيا والعقبى ليفطر في مشاهدة الحقّ على موائد الأنس، فإنّ من رضي بالدّون فهو من الدّون، وقال: من أحبّ الله تعالى زهد في كل شيء يشغله عن الله تعالى، وقال: ما زهد عبدٌ في الدّنيا إلا أنبت الله تعالى الحكمة في قلبه وأجراها على لسانه وبصرّه عيوب الدّنيا ودآءها ودواءها، وأخرجه منها إلى دار السلام، وقيل له: صف لنا الدّنيا. فقال: ما الّذي تريدون من وصفها، هي دار من بناها هدمته، ومن أصلحها خسرتّه وأفسدته، ومن طلبها باعدته، ومن نظر إلها غمّته، تقتل من أحبّته وتأكل من أطعمته، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومآلها إلى الفناء والخراب. فطوبى لعبد تذكّر فأناب، واحتشم من الزلاّت وتاب، ونال من الحسنات قبل غلق الباب، ودافع مناه، وخالف هواه، وجعل الصبر مطيّة نجاته، والتقوى عدّة وفاته. وسئل عن العارف. فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله، ولا يوافق غير الله، ولا يطالع غير الله. وقال: لا يحمل عطاياه إلاّ مطاياه المذلّلة المروضة وقال: إذا صحبك إنسان وأساء عشرتك فادخل عليه بحسن أخلاقك يطب عيشك، وإذا أنعم عليك فابدأ بشكر الله تعالى فإنّه الّذي عطّف عليك القلوب، وإذا ابتليت فأسرع الى الاستقالة فإنّه القادر على كشفها دون سائر الخلق.. وسئل عن المحبة، فقال: استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك، وقال: إنّ لله تعالى شراباً يسقيه في الليل قلوب أحبابه، فإذا شربوه طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى حبًّا لله تعالى وشوقًا إليه، ثمّ أنشد:
غرست الحبّ غرسًا في فؤادي فلا أسـلو الى يوم التّنادي.
جرحت القلب منّي باتصـال فشـوقٌ زائد والحبّ بادي
سقاني شــربة أحيى فؤادي بكأس الحبّ من بحر الوداد
فلـولا الله يحـفظ عارفيـه لهام العارفـون بكـل وادي
وقال: أبو يزيد إنّي لما نظرت إلى الدّنيا اخترت عليه الآخرة، ولمّا نظرت الى الآخرة اخترت عليه الرّب تعالى. وَحُكِي انّ رجلاً عظيم القدر من أعيان أهل بُسطام كان مع أبي يزيد البُسطامي بَقِيَ معه ثلاثين سنّة. فكان لا ينقطع عن مجلسه ولا يفارقه. فقال: له: يومًا. يا أستاذي أنا منذ ثلاثين سنة أصوم النّهار وأقوم الليل، وقد تركت الشهوات، ولست أجد في قلبي شيئاً من هذا الّذي تذكر البتّة وأنا أؤمن بكل ما تقول وأصدّقه. فقال: له أبو يزيد رضي الله عنه. لو صلّيت ثلاثماية سنة وأنت على ما آراك عليه لا تجد منه ذرّة. قال: فلم يا أستاذ؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: أَفلهذا دواء حتّى ينكشف هذا الحجاب؟ قال: نعم، ولكنّك لا تقبل ولا تعمل. قال: بل أقبل وأعمل ما تقول. قال: له أبو يزيد اذهب الساعة إلى الحّجام وأحلق راسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتّزر بعباءة، وعلّق في عنقك مخلاه، واملأها جوزا واجمع حولك صبياناَ، وقل بأعلى صوتك يا صبيان من يصفعني صفعة أعطه جوزةً، وأدخل سوقك الّذي تُعظَّم فيه وأنت على هذه الحالة، حتّى ينظر إليك كلّ من عرفك. فقال: يا أبا يزيد سبحان الله أيقال لمثلي هذا؟ وتحسب أنيّ أفعلهُ! فقال: له قولك سبحان الله شِرك. فقال: له وكيف؟ فقال أبو يزيد: لأنّك عظمت نفسك فسبَّحتها. قال: يا أبا يزيد لست أقدر على هذا ولا أفعله، ولكن دلّني على غير هذا حتّى أفعله. فقال له أبو يزيد: ابدأ بهذا قبل كل شيء حتّى تُسقط جاهك وتذّل نفسك، ثم بعد ذلك أعّرفك بما يصلح لك، قال: لا أطيق هذا. قال: إنك قد قلت إنّك تقبل وتعمل. وأنا أعلم أنّ لا مطمع لعبد فيما حُجِب عن العامّة من أسرار الغيب حتى تموت نفسُه ويُخرق عوائد العامّة. فحينئذ تُخرق له العوائدُ، وتظهر له الفوائدُ.
(1) رجاه أن يسامحه.