بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، إلى يوم الدِّين.
يستقرُّ في وجدان كلّ مُسلِم في العالَم، وفي ضميرِه وفؤادِه، معنى ولادةِ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. إنَّها ولادةٌ مهَّدت لانبلاجِ نورِ الصَّباح بعد طُول عتْمة. ولادةٌ حصحصَ بها الحقُّ، وتزعزعت أركانُ الباطِل، وحين آن الأوانُ نُزِّل الحقُّ على قلبِه بإذن الله، وتجلَّت آيات الرَّحمة إذ بانَ سبيلُ الصِّراط الـمُستقيم في توحيدِ الله الواحد الأحد، الرحمن الرَّحيم، العفوّ الكريم، القويّ العدْل، الحكيم العليم بذاتِ الصُّدور.
والـمُسلِمُ يحفظُ هذا الفضلَ العظيم بالصَّلاةِ والطَّاعةِ لأمر الله بالمعروفِ ونهيِ الله عن الـمُنكَر. ويحفظُه بمؤانسة النَّفس بالذِّكْر الحَميد، وبإضمَار الخيْر للخَلق، وبالثباتِ على مقتضياتِ العدل والصَّواب. والرُّوحُ الإسلاميَّةُ تستلهمُ مقاصدَ الرِّسالةِ، وتسترشدُ بسنَّةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتتَّخذُه قدوةً وتلهَجُ بما جاء في الحديث الشَّريف: إنَّما بُعِثتُ لأُتـمِّمَ مكارمَ الأخلاق.
إنَّ التَّاريخَ حافِلٌ بالمآسي لنزوعِ النَّفس الأمَّارةِ إلى الجموح خلف مطالب الهوى وشهوةِ التغلُّبِ والانزلاق في عبوديَّةِ الظُّلم والطغيان والسَّعيِ فساداً في الأرض. بل وفي حياتنا الـمُعاصرة نشهدُ جميعاً انقلابَ معنى القيَم، واحتقارَ الـمُثُل التي دفعت البشريَّةَ بعد حربيْن عالميَّتيْن مدمِّرتيْن إلى إنشاء هيئة معنويَّة لترعى حقوق الإنسان، ولتنأى بالدولِ والشّعوب عن الهبوط في هاويةِ الحروبِ والصِّراعات. ونحنُ نرى اليوم ذلك الحلم بالسَّلام فريسةَ ملَّاك القوَّة الغاشمة الذين عطَّلوا كلَّ منافذ الوئام ولهذا نشهدُ بشكلٍ تصاعديّ توالُد الحروب والتدخُّلات وبذل الأرواح والأموال والطاقات في حقولِ القتل والتدمير.
والأسوأ هو هذا الإصرار على تسبِيب التصدُّعات في إراث الأمم، وكأنَّ خريطة الطريق لملَّاكِ القوَّة الغاشمة هي صراع الحضارات. عارٌ أن نتعرض لحاملي أمانة الرسالات السماوية تحت ستار حرية لا تقوم على احترام مشاعر الآخرين. وعارٌ عندما نرى في أيَّامِنا هذه دولٌ عُظمى وقادرة تعجزُ عن حماية الأمن الصحِّي لرعاياها، وغيرها، بينما هي في الوقتِ عينِه منصرفة إلى خرائط الصراعات والعمل الدؤوب على توسيع رقعة النفوذ وتثبيت الوقائع على هدير القصف وإشعال الحرائق.
ويؤسِفُنا في لبنان أن تطولَ الأوقات على أزمةٍ غير مسبُوقة لناحية تسارع مؤشّرات الإنهيار في كثير من مقوِّمات الدَّولةِ بل والحياة الكريمة. والمهمّ في الفرصة المتاحَة اليوم فيما خصَّ تشكيل الحكومة هو تجاوز الأمور التي أفسدَت آليَّات عمل النظام الديموقراطي. ثمَّة مبادئ وطنيَّة هي التي تُوجِب إعطاؤها الأولويَّة: الكفاءة، النزاهة، التوازن لا بمعنى المحاصصات بل بمعنى التضامن الوطنيّ والانسجام الإيجابي في أجواء سلطة القرار. وهذا ليكون دافعاً نحو الإصلاح الحقيقي، وتحرير إرادة الإدارة بكلّ مستوياتها التزاماً بالمصلحة الوطنيَّة العُليا، وإزاحة مرابض المصالح الخاصَّة لصالح خدمة الحقل العام. والحقل العام هنا هو بمعناه الدقيق آفاق المواطَنة، والحرّيات تحت سقف القانون، والانتهاء من التعدّي على المال العام بكلّ الأساليب المشبوهة لمصلحة خزينة الدولة اللبنانيَّة. ولا بدَّ بالطبع من توفير المساحة الحرَّة التي تعطي للقضاء وأجهزته المناعة في وجه التدخُّلات. ولا بُدَّ من احترام جيشنا الوطنيّ ودعمه بحيث أن واجبَ كافة القوى السياسيَّة بهذا الشان أن ترفع الغطاء أو ما شابه ذلك عن كلِّ مظاهر مُخلَّة بهيبة الجيش.
إنَّ ذكرى المولد النبويّ مناسبة للوقوف أمام القيَم التي من شأنها أن تضيءَ قلبَ الإنسان بما يمكِّنه من تحقيق معنى إنسانيّته. إنَّ بهذا المعنى تُبنى الشخصيَّة الإنسانيَّة السويَّة، وتُبنى المجتمعات وتُبنى الأوطان. نسأل الله تعالى أن يلهمَنا إلى ثمار مقاصد رسالته، وأن ينصر كلَّ صاحبِ حقّ وموقف عادل بعونه ونصره. إنه نعم المولى ونعم النَّصير.