بسم الله الرحمن الرحيم
ألْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينْ وَ الصَّلَاةُ وَ السَّلامُ عَلى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينْ وَ عَلى آلِهِ وَ صَحْبِهِ الطَّاهِرينَ الطَّيّبِينَ وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِاحْسَانٍ اِلى يَوْمِ الدِّينِ.
- قال تعالى في كتابه العزيز ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْانْسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيْمٍ ﴾ (التين، 4) . فقد أعطت هذه الآيةُ الڪريمة للانسان وصفاً و قيمةً لم ينلها احدٌ من المخلوقات، و هو ما يدل على رفعة منزلة الانسان عند الله تعالى حيث فضّله على سائر المخلوقات، و جعله في احسن صورةٍ ، و أعطاه العقل و المعرفة، و جعل فيه من الانعام ما لا يحد و لا يحصى، و سخّر العالَمَين لخدمة هذا الانسان: العالم العلويُّ الذي هو الافلاك و المدبِّرات، و العالم السُّفليُّ الذي هو الحيوان و النبات والجماد، وجعل غايةَ ذلك كلِّه عبادةَ الله سبحانه و تعالى و توحيدَهُ . قال تعالى ﴿ وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْانْسَ الّا لِيَعْبُدُونْ ﴾ (الذاريات، 56) (اي يطيعون) . فمن اطاع الله و اجتنب معصيته فلنفسه في الآخرة أسعد، ومن عصى فلنفسه اذلّ وأبعد و يكون بذلك قد خسر رضى الله و ثوابه في الآخرة ذلك هو الخسران المبين .
- يحتاج الانسان للتقرب الى الله عز وجل للكثير من اشكال العبادات التي شُرٍّع له القيام بها حتى يفوز بمرضاة الله تعالى ويصل الى جنته التي وعد بها عباده المتقين ، و هذه العبادات تقسم الى قسمين : قسمٌ ايمانيٌّ عقائديٌّ وهو الايمان بوجود الله عز وجل ، وبوحدانيته ، و تنزيهِهِ ، وعدم الشرك به . والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه واليوم الآخِر . وقسمٌ مسلكيٌّ لا يكمل الايمان الّا به وهو اجتناب المعاصي والالتزام بالفضائل والقيم الأخلاقية . وهذان القسمان مرتبطان بعضهما ببعض ارتباطاً كلّياً بحيث لا يصح احدهما الّا بالآخَر .
- من هنا ومن هذه الاصول ارتضينا لأنفسنا التوحيد مذهباً، واتخذنا من مبادئه وقِيَمِهِ وفضائله لنا مسلكاً .
- كُلُّنا ننتمي الى مذهب التوحيد انتماءً بالفطرة حيث اننا وُلٍدنا لأبوين ينتميان الى هذه الطائفة المعروفية الكريمة ، وكلُّ واحد منّا يفتخر بانتمائه ويسعى جاهداً للحفاظ على هذا الكيان المعروفي ، و يضحي بالغالي والنفيس لإعلاء رايته عالياً ، ولو وصل بنا الأمر لبذل النفس للمحافظة على هذا الكيان لم ولن نبخل يوماً بإذن الله والتاريخ يشهد على ذلك ، لكن يبقى السؤال الأبرز : إذا كان الأنتماء بالفطرة يستحق منا كل هذه التضحية للحفاظ على كرامتنا ووجودنا في هذه الدنيا، اليس الإنتماء الى الفضائل والقيم الأخلاقية التي هي ركن ٌ اساسيٌّ من اركان مسلكنا التوحيدي ، ودعامة ارتكز عليها المذهب منذ نشأته احق باعتناقها والتضحية في سبيلها ، وإعلاء رايتها ، وتحمل المشقات من اجل الإلتزام بمضمونها ، لأنها الأجلّ والأَولى والأكمل والبرهان الجليُّ الواضح على صحة انتمائنا التوحيدي ؟ فهي على وجه الخصوص خير في الدنيا وثواب في الآخرة حين لا ينفع مالٌ ولا بَنون إلّا من اتى الله بقلب سليم …… فالقيم الأخلاقية والتوحيد متلازمين لا ينفصلان ، وهذه القيم اسمى من ان تحصى في بعض العبارات ، وهي كثيرة ومتعددة لكن لا بد من الإجازة في تعريفها وشرح بعضها على سبيل المثال لا الحصر .
- القيم : لغةً . هي جمع كلمة قيمة ، وهي الشيء ذو المقدار او الثمن الذي يعادل المتاع . وفي الإصطلاح هي مجموعة الصفات الأخلاقية التي يتميز فيها البشر ، وتقوم عليها الحياة الإجتماعية ، ويتم التعبير عنها باستخدام الأقوال والأفعال ، وتُعرَّف ايضاً بانها مجموعة من الأخلاق الفاضلة التي اعتمدت على التربية الدينية في توجيه السلوك البشري للقيام بكل عمل او قول يدل على الخير .
- الأخلاق : في اللغة . وهي السّجيّة والطبع والمرُوّة والعادة والدين . جاء في سورة الشعراء : ﴿ ان هذا إلا خلُق الأولين ﴾ (137) في الجمع ( اخلاق ) وعلم الأخلاق هو علم السلوك وهو من انواع الحكمة العملية ، ويسمى تهذيب الأخلاق والحكمة الخلُقية ايضاً .و في الاصطلاح هيى مجموعة من المبادئ و القواعد التي تنظّم السلوك الانساني ، و تحدد علاقات الافراد معاً لتحقيق الغاية من وجود الانسان ، و العمل من اجل النفس و الاسرة و العقيدة. وفي الإصطلاح الفلسفي عند بعض علماء الفلسفة ان الأخلاق هي القدرة على التمييز بين الخير والشر عند الأفراد ، ويمكن تعريفها ايضا من المنظور الفلسفي بأنها الفضيلة التي يتغلب فيها الجانب الإلهي على جانب الشهوات والمرغوبات ، ويرى بعض الفلاسفة انه يمكن تعريف الأخلاق بانها القدرة على ضبط الشهوات بالعقل وممارسة الفضائل والمكارم من الصفات وتمييز الحسن منها من القبيح .
- للقيم الاخلاقية عدّة مصادر اهمّها الكتب المنزلة و سنن الانبياء و سير الاولياء و اقوال الفلاسفة كفيثاغورس و افلاطون و ارسطو .
- تتمثل القيم الاخلاقية بعدد من الصور و النماذج وقد قلنا انها كثيرة ومتعددة لا يمكن حصرها بمحاضرة او درس ، وكل عنوان منها يحتاج الى محاضرة خاصة لشرحه شرحاً وافياً ، لكن لا بد من انتقاء بعض العناوين والتحدث عنها ، وهي التقوى و الصدق و الحياء و التواضع و حسن الخلق .
- التقوى : لغةً : فهي مأخوذة من الوقاية وما يحمي الإنسان به نفسه ، وقيل ان اصل التقوى في اللغة قلة الكلام ، ومنه الحديث ان التقي ملجم ، وهي عند اهل الحقيقة الإحتراز بطاعة الله عن عقوبته ، وهو صيانة النفس عمّا تستحق به العقوبة من فعل او ترك . وفي الإصطلاح ان تجعل بينك وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً ، وايضا ان تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الطاعة وترك المعصية .
- و المتقي من اذا قال لله و اذا عمل لله . و ثمرة ذلك فوز كبير و خير كثير. قال تعالى : ﴿ ان الله مع الذين اتّقَوا و الذين هم محسنون﴾ ( النحل 128) . و قال ايضاً : ﴿… وجنّةٍ عرضها السموات والأرض اعدت للمتقين ﴾ (آل عمران 133) . و قال : ﴿ ان اكرمكم عند الله اتقاكم ﴾ (الحجرات 13 ). وقال : ﴿ بلى من اوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين﴾ (آل عمران 76). وقال ﴿ من يتّق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ (الطلاق2-3) . قال سيدنا الشيخ الفاضل (ر) فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة التي هي التقوى…..
- الصدق : لغةً هو قول الحقيقة و هو عكس الكذب. و قد امر الله تعالى بالصدق فقال : ﴿ يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله و وكونوا مع الصادقين﴾ .(التوبة 119) والصدق في التوحيد له مكان عظيم حيث يجب على الموحد ان يكون صادقا في النية والقول والعمل ، فالصدق ربيع القلب ، وزكاة الخلقة ، وثمرة المروءة ، وشعاع الضمير . والصدق منجاة ، وهو اول دروب الخير ، وصفة المؤمنين ، والأنبياء والصالحين . وهو طريق للبِرّ ، وجالب للحسنات ، ومذهب للسيئات، وهو اساس للكثير من الأخلاق التي تقوم عليه ، فلا يمكن ان يكون الإنسان سويّاً إن لم يكن صادقاً ، ولا يمكن ان يكون وفيّاً بالعهود إن لم يكن صاحبُ لسانٍ صادق ، لا يقول غير الحق ولا ينطق إلا بالصدق ، ولا يجوز ابداً ان يكون الصدق في مواقف ويغيب في مواقف اخرى ، بل يجب الإلتزام بالصدق في جميع شؤون الحياة ، لأن الصادق صادق دوماً ، ولا يمكن ان يكون كاذباً وصادقاً في نفس الوقت ، لأن الصدق مبدأٌ اخلاقيٌّ لا يقوم على التجزئة ولا على المحاباة . والكاذب ينفر منه الجميع ، ولا يستأمنونه على انفسهم ولا على اموالهم ، ولا يمكن ان يكون موضع ثقتهم ابداً ، والكذب مخالفة لفطرة الإنسان السليمة التي فطره الله سبحانه وتعالى عليها . نسأل الله تعالى ان يجعلنا من الصادقين الطيبين الذين يستمعون القول فيتّبعون احسنه .
- الحياء في اللغة : هو التوبة والحشمة ، وقيل هو انكسار وتغيّر يعتري الإنسان من تَخَوُّف ما يعاب به او يذمّ عليه ، وقيل هو عبارة عن خُلُقٍ باعثٍ على ترك القبيح ، ومانعٍ عن التقصير في حق ذوي الحقوق وهذا هو المعروف . والحياء اصطلاحاً هو انقباض النفس من شيءٍ وتركه حذراً من اللوم فيه ، وفي الكلّيات هو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها ، وبين الخجل الذي هو انحصار النفس من الفعل مطلقاً . والحياء ايضاً ما يُستحى بكشفه من الأعضاء ، وجاء في تعريفه انه خُلُقٌ حسنٌ يمنع صاحبه من القبائح مخافة نظر الله والناس ، محلُّه الوجه ومنبعه القلب .
جاء في الحديث الشريف ( إنّ لكل دينٍ خُلُقاً ، وخُلُقُ الإسلام الحياء )
فأول الحياء ان يستحي الإنسان من الله عز وجل حقّ الحياء ، فالمؤمن إذا قوي فيه خلق الحياء ، قويت فيه الحياة ، واصبح يراقب اعماله وتصرفاته الظاهرة ، واحواله القلبية ، مستشعراً فيها مراقبة الله عز وجل ونظرَه ، وانه مُطّلعٌ على سرّه وعلانيّته ، فلا يجعل الله اهون الناظرين اليه ، وبهذا المفهوم فإن الحياء مصدره الإيمان ، فمن استحى من الله عند معصيته ، استحى الله من عقوبته يوم يلقاه ، ومن لم يستحي من الله في معصيته ، لم يستحي الله من عقوبته ، وقيل انما يخشى الله من عباده العلماء ، فنفى العلم عمّن لا يخشى الله .
- الثاني الحياء من الناس . وهو مرتبط بالحياء من الله ، ويجب ان يكون مجبولاً في النفس البشرية ، ونابعاً من قناعةٍ ايمانيّة قلبيّة ، كالحياء من كشف الجسد عموماً ، وكشف العورة على وجه الخصوص وغير ذلك ممّا تشمئزّ منه النفوس والعقول السليمة . وقد جاء في الحديث الشريف : (الا وإنّ في الجسد مضغةً ، إذا صلُحت صلُح الجسد كلُّهُ ، وإذا فسَدَت فسد الجسد كلُّهُ الا وهي القلب ) .
- التواضع هو لين الجانب وعدم التعالي على الناس ، وهو ضد التكبّر ، فالتواضع سُلّم الشرف ، وهو من الأخلاق المثاليّة والصفات العالية ، فالمؤمن متواضع من غير مذلّةٍ ولا مهانة ، والمتعالون في الأرض اي ( المتكبرون ) يطبع الله على قلوبهم ويعمي ابصارهم ، فلا يستشعرون قدرة الله القاهرة فوقهم ولا ينتفعون بآيات الله الباهرة من حولهم . يقول تعالى ﴿ كذلك يطبع الله على كل قلبٍ متكبّرٍ جبارٍ ﴾ (غافر 35) فالتواضع صفة الحكيم العاقل ، صفة الإنسان الذي يعرف قدر نفسه ، والتواضع صفة العبد الطائع الرّضيّ الذي يعرف ان الكبر من صفات الله تعالى وهي مختصّة به فقط ، كما جاء في الحديث القدسيّ ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منها القيته في جهنم ) وفي القرآن الكريم لم يذكر لفظة التواضع حرفيّاً ، انما صورها بصورة بلاغيّة حيث قال : ﴿ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ﴾ ( الشعراء 215) . وايضاً جاء في الآية الكريمة على ذكر الوالدين والتواضع لهما ، قال تعالى ﴿ واخفض لهما جناح الذّل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً ﴾ (الاسراء 24).
- حسن الخلق في الإصطلاح هو طلاقة الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى عن الناس ، ومداراة الغضب ، واحتمال الأذى .
وجاء في الحديث الشريف عن حسن الخلق : ( الا أدلُّكُم على خير اخلاق اهل الدنيا والآخرة ، ان تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك ) . فحسن الخلق هو الخصلة المرضيّة ، والسّجيّة المنجّيّة التي بها تُنال خيرات الدنيا والآخرة ، وبها تكون السعادة في الدارين اذا اقترنت بالإيمان والدين ، فالخلق الحسن عونٌ عظيمٌ للإنسان على دينه وعلى طاعة ربه ، وفي معاملته للناس ومعاشرته لهم فيُريح ويستريح ، واذا كان سلِطاً سيّء الخلق كان ممقوتاً عند الله وعند الخلق ، وقيل إن اساس الخير كلِّهِ حالان : تهذيب الأخلاق واستشعار الخلّاق ، وقيل ما جبل الله وليّاً له إلا على السخاء وحسن الخلق . واذا اراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج المؤمنين . و ان لله عباداً يخصّهم بالنعم لمنافع العباد ، فمن بخل بتلك المنافع وامسكها عن عباده الصالحين نقلها الله تعالى عنه وحولها الى غيره ، وقيل ان اكمل المؤمنين ايماناً احسنهم خلقاً ، وان المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم .
هناك بعض الأمثلة على حسن الخلق : قيل شتم رجل سيدنا سلمان الفارسي فقال له : ان خفت موازيني فأنا اشر ممّا تقول ، وإن ثقلت موازيني لم يضرّني ما تقول فقد كان قلبه مصروفاً الى الآخرة فلم يتأثر بالشتم . وقالت امرأة لمالك ابن دينار يا مرآئي ، فقال ما عرفني غيرك ، فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء فلم يغضب لما نسب اليه .وهناك الكثير من الأمثلة نختصر شرحها لضيق الوقت .
نسأل الله لنا ولكم الأجر والثواب وحسن الخاتمة وان يتقبلنا من جملة عباده الصالحين . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .