مما لا شكّ فيه أنّ للانتحار أسبابه المتعددة بدءاً من الوضع النفسي والاجتماعي والعائلي مروراً بالوضع العملي والمادي، وصولاً إلى الوضع العاطفي وربما الفكري عند الإنسان المنتحر أو الذي يفكّر بالانتحار، لذا كان لا بدّ من العمل لمواجهة هذه الأسباب ومحاولة معالجتها بجدية ومسؤولية وبتعاونٍ وتنسيق، حيث لا يمكن للشخص المعني في معظم الأحيان المواجهة بمفرده أو في حدود عائلته، وعندها يتوجب على المجتمع المحيط به المساعدة، واذا اقتضى الأمر التدخلَ الخارجي، ومن الأفضل الاستعانة بأهل الاختصاص والتأثير من علماء النفس أو رجال الدين أو سواهم.
لقد تميّز الإنسان بالعقل والوعي لاختيار الطريق الصحيح، مستخدماً سلاح العفة والفضيلة والشجاعة الذي يؤهِّله لعدم الانسياق وراء أهوائه وشهواته، وللتمييز بين رفاق السوء ورفاق الخير، والابتعاد عن العلاقات المشبوهة والأعمال المشينة، وعدم تعريض النفس للمواقف المحرجة وللمشاكل الدخيلة، وإذا كان من الطبيعي أن تمرَّ في حياة المرء مراحلُ صعبة وحسّاسة، إلَّا أنَّ الحكمة تكمن في تحكيم العقل لمواجهتها، ليكون المرءُ عادلاً منصفاً بحق نفسه وبحقوق الآخرين، فيقيم التوازن في كل ما يفكّر به أو يُقدمُ عليه من أعمال وعلاقات وتصرفات، وبتعبير آخر أن يضع حداً لاختلال توازنه ولانجرافه ولضياعه ولرغباته غير المحمودة، لا أن يلجأ إلى التفكير بحل مشاكله عن طريق وضع حدٍّ لحياته، بما يمثِّله ذلك التفكير من العجز والمرض والهروب والتخلّي، فكما أن الإنسان خُلق دون إرادته فلا بدّ لموته أن يحصل دون إرادته، ولا يجوز لأحدٍ أن ينهي حياته أو حياة الآخرين بيده لمجرّد أنه حاقدٌ عليهم أو على نفسه، فـ”من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً”، كما ورد في القرآن الكريم، ولذلك حُرّم القتل إلّا دفاعاً عن النفس ولأسبابٍ موجبة ومحددة.
من جهةٍ أخرى لا يجوز التخلِّي عن الشخص المصاب بالصدمة العاطفية أو بالاكتئاب أو بانفصام الشخصية أو بالعجز الجسدي أو المادي أو سوى ذلك من الإصابات المؤلمة وتركه فريسة الأوهام واليأس، فقبل الحكم على المنتحر بأنه خرج عن الدين، والقول بأن مصيره إلى جهنم وبئس المصير، علينا، كمسؤولين وكمجتمع وكمؤمنين خصوصاً، أن نسعى إلى تفهُّم واقعه ومساعدته ومساعدة الشباب وعامة الناس، بالتوجيه والتوعية أولاً، وبزرع بذور الإيمان الصحيح والقناعة وتوضيح مفاهيم الشجاعة والعنفوان والمروءة بأنها لا تعني مجاراة رغبات النفس أو التهديد بقتلها أو بإيذائها أو التشفّي منها أو ممن يتحدّاها، وثانياً بمدّ يد العون للمريض أو للمُعاني من إحدى تلك الحالات المذكورة حيث تدعو الحاجة، وهذه المسؤولية جديرة بأخذها بعين الاعتبار من قبل المرجعيات السياسية والروحية والتربوية والاجتماعية، وهناك خطوات من المفروض القيام بها، تبدأ من العائلة والأصدقاء الذين يجب أن يتعاملوا بإيجابية وواقعية مع الحالة وأن يبلِّغوا عنها إذا وجب الأمر ويستعينوا بمن هم جديرون بالتدخّل والمساعدة.
صحيحٌ أنَّ هناك متطلبات جمَّة ولا تنتهي لدى الشباب والعائلات وهي تتضاعفُ يوماً بعد يوم، وأنّ هناك تقصيراً من الدولة والمؤسسات والمجتمع في مجال المساعدة في تلبية تلك المتطلبات، وإن كان لا يجوز رمي المسؤولية والثقل على الآخرين دائماً، فلدى كلٍّ منّا مسؤولياتُه ودوره وإمكاناته للمواجهة والتصرُّف والتكيُّف مع الواقع ومحاولة معالجة المشاكل بالتي هي أحسن، ولدى مجتمعنا من القيم ومن التراث الأخلاقي والروحي والاجتماعي ما يجب أن نستفيد منه في المواجهة، أمَّا التساهُلُ معَ تلك الحالات فأمرٌ غيرُ مقبول، كي لا يصبحُ الأمرُ عادةً، فالانتحارُ، كما القتلُ، كما الخروجُ عن الضوابط الأخلاقية والتقاليد الشريفة أمورٌ تصلُ إلى مستوى الجريمة، ومتى كان السكوتُ عن الجريمة مقبولاً؟ فلا الدينُ ولا المجتمع يرضى بغضّ النظر عنها ومساواةِ فعلِها بأيِّ فعلٍ عاديٍّ آخر، ولكنَّ ذلك بالطبع لا يعفي من المسؤولية، فالكلُّ راعٍ وكلُّ راعٍ مسؤولٌ عن رعيَّتِه، بدءاً من الأب والأمِّ والمربّي وربِّ العمل ورجال الدين والمجتمع والدولة.
ألا وقانا الله ووقى أبناءَنا وبناتِنا من سهام الفساد والانحلال والضياع، وحصّننا وإيَّاهم بالإيمان والعافية والحكمة، ولنكن متَّحدين موَّحدين من أجل بناء بيوت السعادة الحقيقية لنا ولأبنائنا وأحبَّائنا جميعاً، وفي ذلك أجرٌ ما بعده أجر، وبالله التوفيق، وهو تعالى نعم النصيرُ ونعم المعين.
بقلم
رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي
الشيخ د. سامي ابي المنى