أقامت اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بالتعاون مع رابطة آل غنام في دميت ندوة ثقافية في دار البلدة بعنوان: “المجتمع التوحيدي… ثوابت ومتغيرات”، تحَّث فيها رئيس اللجنة الشيخ د. سامي أبي المنى والمحاضر الأستاذ وسام طي أبو ضرغم، وأدارها عضو اللجنة الثقافية الأستاذ الجامعي الدكتور نبيل عماشة.
مثَّل الشيخ أبي المنى سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن، وحضر الندوة ممثل النائب تيمور جنبلاط ناصر زيدان ورئيس الأركان السابق اللواء حاتم ملَّاك ومفوض الثقافة في الحزب التقدمي الاشتراكي فوزي ابو ذياب ووكيل داخلية الشوف عمر غنام ومدير عام النقل المشترك زياد نصر ومدير عام الجلسات في مجلس النواب رياض غنام والقاضي وسيم زهر الدين والأديب شوقي حمادة والعميد المتقاعد سليم ابو اسماعيل ورؤساء بلديات ومخاتير من المنطقة ومشايخ وأعضاء من المجلس المذهبي وممثلون عن مدارس وجمعيات وحشد من الشخصيات والمثقفين والأهالي.
غنَّام:
بعد النشيد الوطني افتتح اللقاء بكلمة ترحيبية لرئيس رابطة آل غنَّام فيصل غنَّام، الذي رحَّب بالمحاضرين والحضور، قائلاً “إنَّ دميت هذه البلدة الصغيرة التي يقطنُ فيها عدد من العائلات، وهي تتميّز بتماسكِ أهلها ووحدتِهم… ضمن عادات وتقاليد تربّينا عليها وما زلنا نحافظ عليها، وهذا ما مكّـنها أن تكون نموذجاً حياً يُحتذى به في المنطقة… وقد تأسست الرابطة وغايتها العمل على تطوير الأوضاع الاجتماعية والثقافية والرياضية للعائلة وللبلدة، بالاضافة إلى تنمية وتوطيد أواصر التضامن بين أبناء العائلة وأبناء البلدة عموماً”.
وختم منوِّهاً بمبادرة المجلس المذهبي وبموضوع الندوة وبالمحاضرين، قائلاً: “إن الغاية من هذه الندوة اليوم هي كيف نتعلّم الحصول على المعرفة التي تنير والمعلومة التي تحرّر، والتعلُّم باب التقدم في كل مجتمع وكل أُسرة، لذا نتمنى أن تكون المعرفة حقيقية والمعلومة صحيحة، وهذه هي الغاية لكي نعرف ما لا نعرفه”.
عماشة:
عرَّف عماشة بدايةً بمهمة اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي قائلاً: “إنها تعمل على تعزيز مفهوم الثقافة والوعي في المجتمع التوحيدي وخصوصا عند الشباب، محاولة تقديم شرحٍ للمسك التوحيدي عبر مسار مبسطٍ، يفهمه الجيل الجديد ويرتاح اليه الجيل الأكبر سنًا، إضافة إلى تعزيز المسارات الثقافية بكافة أشكالها عبر الندوات والمؤتمرات التي تشارك فيها وتقيمها اللجنة”، خصوصاً و”أننا نعيش في عالم متغير، تتغيرُ فيه البيئة، ويختلف الطقس، تتغير فيه المجتمعات وتتغير العلاقات الانسانية، حتى اللغة “اللهجة” تتغير وندخل فيها الكثير الكثير من المفردات الجديدة!، … لم يعد هذا التغيير أمراً بسيطًا يمكن أن يمرّ دون تأثير، من الناحيتين الاإجابية والسلبية للمتغيرات. أما عن التغييرات السلبية ومدى تأثيرها فهذا الامر مرتبط عضوياً بالثوابت … فإن كانت ثوابتنا بسيطة وغير راسخة نتأثر أكثر بسلبية المتغيرات تلك… أما اليوم وحتى وقتنا هذا فقد استطاعت عقيدتنا وثوابتنا الراسخة والغنيّة أن تحمينا من ذواتنا بالدرجة الاولى، وأن ترفع من شأننا في داخل مجتمعنا ومع المجتمعات المحيطة في الدرجة الثانية”.
وقال: “هذا المسلك التوحيدي يستطيع إذا فهمناه أن يواكب التطور الحاصل (التكنولوجي خاصة) ويقلل من تهديده على مستقبلنا ومستقبل ابنائنا. هذا التهديد خطير لدرجة يقترب فيها من زوالنا، بالمفهوم التقليدي للكلمة، أو من الذوبان في محيط لطالما حاولنا أن نبقى على تمايز عنه بما لذلك من صدق وفهم دقيق لأمور الدنيا؛ مفهوم مختلف لهذا الكون والكيان الإنساني وفلسفة الوجود مع عمق إيماننا المتميز”.
ثم طرح عماشة جملة تساؤلات حول الموضوع، سائلاً: “كيف يمكننا أن نفهم عقيدتَنا التوحيدية وأن نعيشَ معانيها عيشاً خالصاً مع الله في زمنٍ كثُرت فيه الالتباسات والاجتهادات والتيارات الفكرية والإلحادية؟ كيف يمكننا أن نؤكِّد ونجدّد الالتزام بالفضائل الدينية والاجتماعية، والتمسّك بالتقاليد المعروفية الشريفة في عالم التطوّر والعلوم والحداثة، إذ هي جزءٌ مهمٌّ من هويّتنا وتراثنا؟ وكيف يمكنُ أن نرسِّخ تعلّقنا بالأرض والحفاظ عليها، إذ هي عنوانُ وجودنا ومهدُ أجدادنا ومرقدُ آبائنا، وهي مصدرُ الخير والبركة والجمال؟ كيف يمكننا أن نحفظ أهلنا ونحافظ على عائلاتنا؟ كيف نربّي أبناءَنا وبناتنا على الأصالة والانفتاح، وعلى إقامة التوازن في الحياة، لنربح الدُّنيا ولا نخسر أنفسنا، وفق مبدأ الاعتدال وعدم التفريط أو الإفراط، أي عدم المبالغة والغلوّ من جهة، وعدم الاستهتار والتسويف من جهة ثانية؟”
وتابع متسائلاً: “كيف نحفظ تراث سلفنا الصالح الغنيّ بالمعاني والتجارب التوحيدية والإنسانية والوطنية، والتماسك في علاقاتنا العائلية والاجتماعية؟ كيف يمكن أن نُبعدَ ذلك عن الغرضيات والانقسامات السياسية والعائلية؟ وكيف نجسِّد عَيش الأخوّةِ الدينية والاجتماعية واقعاً فعليَّاً وعيشاً كريماً لائقاً، يشدُّ فيه الكبيرُ أزرَ الصغير، ويلتقي فيه المسؤولُ مع المواطن، والميسور مع المعسور، لقاءَ الأحبّةِ والتكامل والتآخي والتنافس في حفظ الأهلِ والأخوان، لا في ما سواه، تحقيقاً لغاية التوحيد؟ كيف يمكن لنا أن نستظلَّ بركة الشيوخ الثقات السالفين وتراثهم؟ كيف لنا أن نستفيد من تجربة شيوخٍ أتقياء، صامتين إلاّ عن حقٍّ يوضحونه أو باطلٍ يدحضونه أو حكمة ينشرونها؟
وأخيراً، كيف يُمكننا أن نحصِّن مجتمعنا التوحيدي في وجه تحديات العصر ومتطلبات العولمة؟ كيف نحافظ على الثوابت؟ وكيف نتكيَّف مع المتغيرات؟ فنربح العالَمَ لا نخسر أنفسَنا؟ هذا هو سؤالُ الندوة أو أسئلتُها، التي تعنينا في اللجنة الثقافية والتي نُقيم هذه الندوة للإجابة عليها ما أمكن”.
أبي المنى:
في محاضرته بدأ الشيخ أبي المنى بالحديث عن الدنيا قائلاً إنها “غرَّارة وجذّابة، تغرُّ وتغشُّ وتُغري، لكنّ معظمَ ما فيها كالسراب الذي كلما اقترب منه الإنسان كلما بعُدَ عنه وضاع منه، يركض المرءُ نحوه باندفاعٍ وأملٍ وشهيَّة، فيأخذه إلى العبثِ والمجهول تحت عنوان الحرية والتطوُّر والحداثة”، وأشار إلى أن الإنسان “قد ينسى في غمرة التطور والتقدُّم العلمي والاكتشافات وتوفُّر وسائل الرفاهية أنَّ هناك نظاماً وقواعدَ ومبادئَ للإنسانية لا يجوز التخلي عنها أو تبديلها، مهما تغيَّرت الظروفُ والأحوال، كما أنَّ هناك تقاليدَ وموروثاتٍ علميةً وأدبية واجتماعية قابلة للتغيير، بل من الأَولى والأصح تغييرُها، فالثوابتُ أساسية والتغيير ضروري، أمَّا الأهمُّ فهو كيف نُفرِّق بين هذا وذاك، وكيف نُميِّزُ بالعقل بينهما؛ أي بين الغثِّ والسمين، كما بين الحسن والأحسن، والسيِّء والأسوأ، لنختارَ المفيدَ من كبِّ ذلك وفق ما تقتضيه الحكمة والظروف ومتطلبات الحياة”.
وتطرَّق إلى مفهوم الحرية التي “يجب أن تقود إلى تحقيق الأنسنة المرجوَّة”، معتبراً أن الحرية “ليست خروجاً على القيم والأصول والأعراف والأنظمة والقوانين والمبادئ، ولا يجوز أن تكون متفلتة من القواعد الأخلاقية، بل يجب أن تتعزّز بالوعي والمسؤولية، وإلَّا تكون أقربَ إلى غسيل الأدمغة وإفساد الشباب. وإذا كان بعضُ الناس المتمدِّنينَ ومدَّعي الثقَافة يظنُّون أنَّ الحريَّةَ مُطلَقة فهذا خطأٌ جسيم، لأنها إذا كانت مطلَقة فإنها تحتاج إلى عقلٍ كليٍّ كاملٍ كي لا تتحوَّلَ إلى فوضى وشهوةِ سلطةٍ ومالٍ وجنسٍ وحياةٍ ماديَّةٍ متفلتة من القيود والضوابط، وليس لدينا عقولٌ كاملة، وهذه الحرية المزعومة لا تُنتجُ السعادةَ الحقيقية التي هي أبعدُ من لذّة جسدٍ أو بلوغ جاهٍ أو جمعِ مالٍ أو تحقيق سطوة”.
وإذ تكلَّم عن مظاهر الانحلال الأخلاقي والاجتماعي التي غزت مجتمعاتِنا وهدّدت أبناءَنا، أشار أيضاً إلى “مظاهر الانجرار وراء تيارات فكرية خادعة لا تعبّرُ عن جوهر التوحيد والحقيقة، وإن بدت لطيفةً في بعض تجلّياتها، إلى مظاهر اللامبالاة والعيش على هامش الحياة دون جدوى أو غاية أو معنى”، قائلاً: “إننا أصبحنا نعيش تلك المظاهر لحظة بلحظة في البيوت والشوارع والمدارس والجامعات وفي كلِّ تفاصيل الحياة، كلاماً مباحاً وكذباً صُراحاً، تراخياً واستهتاراً في التربية وبناء الإنسان السويِّ المؤمن العاقل، ولهواً ولعباً وميلاً إلى الراحة والإباحة، وأزياءَ فاحشةً تضع الاحتشام والحياء في خبر كان، وتعاطياً غيرَ مسؤول مع صحة الجسد والروح، باعتماد الألذّ والأشهى، لا الأصحّ والأنفع من الغذاء، وبالاعتياد على التدخين وما يتبعه من موبقاتٍ، كالإدمان على شرب الكحول وعلى ما هو أخطر وأشدُّ ضرراً، وسوى ذلك ممّا يُسبِّبُ الضررَ ويدفع إلى الانحراف، فيُصبح المجتمع محكوماً وقائماً على خداع الصورة والتقليد الأعمى واللذة المتوهَّمة، لا على جوهر الحقيقة وقانون الخير والصلاح والسويّة الإنسانية”.
ورأى أن التحّدي الأكبر “يكمنُ في القدرة على إقامة التوازن؛ بين ما هو أصيلٌ ووجودي، وبين ما هو دخيلٌ وعابر، كما بين ما هو قديمٌ يُستفادُ منه، وبين ما هو جديدٌ لا يُستغنى عنه، وقد حضَّ الدين على الاحتكام إلى العقل، فالعقل يعقِلُ الأمورَ، أي يُدركُها، والعقلُ يعقِلُ النفسَ عنِ الهوى، أي يحميها، والعقلُ يحثُّ الإنسانَ على الالتزامٍ بالفضائل والقيم، والرسالاتُ السماوية خاطبت العقلَ أولاً، لكي يُنمِّي قدراتِه بالعلم والاكتساب والسعي لإدراك الحكمة، وهي ما أُنزلت إلَّا لخير الإنسان لكي يكونَ بحقٍّ أشرفَ المخلوقات وأرقاها على الإطلاق، ولكنَّ هذا كلَّه يحتاج إلى تربية وترويض وتدريب”، مشيراً إلى أهمية التربية الأخلاقية كطريق الخلاص، والتي “تبدأُ بتحصين الذات أولاً، قبل محاولة إصلاح المجتمع والعالَم، ومن تربية الذات تتوسَّع المسؤولية التربويةُ نحو الأُسرة والمجتمع. من إصلاح الذات ينطلق المرء إلى الإصلاح العام، فمَن عليه حدٌّ لا يُمكن أن يُقيمَ حدَّاً على الناس أو حدوداً، ومن لا يكون عفيفاً فلا يجوز له أن يحاضر بالعفَّة، معتبراً أنّ المبدأ الأساس “ينطلق من المبدأ التوحيدي القائل: “إعرفْ نفسَكَ تعرفْ ربَّكَ”، وهذا المبدأ هو مفتاحُ كلِّ معرفة وكلِّ حكمة”.
وتابع أبي المنى قائلاً: “إنَّ ما نشهدُه اليومَ في ظلِّ العولمة المتوحِّشة يُشير إلى انخفاض المستوى الثقافي والمعرفي لدى معظم الناس، نتيجةَ قلّة المطالعة وانعدامِ التأمُّل وقلَّةِ المذاكرة في العلوم الروحانية والإنسانية وفقدانِ الاتّصال بالمفيدين، وتقصير المؤسسات الدينية والتربوية ورجال الدين والمسؤولين في التوجيه والتنوير الصحيح، وخلوِّ المناهج التربوية من برامج الإعداد والتوجيه، وغياب القدوة الحسنة في غالب الأحيان، وغزو الوسائل التكنولوجية البيوتَ والجيوب والعيون والعقول والقلوب دون وعيٍ ونظام، ممَّا أفقد الناس والعائلات والمجتمع التوازن، وأربك أُولي الأمر من الآباء والأمهات والمربِّين وواضعي المناهج التربوية، وأنذر ويُنذرُ بسوء العاقبة”، معتبراً أن علينا واجب المواجهة والتحدّي بشجاعةٍ وحزم، “فالشجاعة لا تعني قوةَ الساعدِ والقلب، والقدرة على استعمال السلاح والانتصار في معارك القتال، بقدر ما تعني الوقوفَ في وجه أهواء النفس ورياحِ الفساد والانحلال الأخلاقي والتفكُّك الأُسَري والاجتماعي، وهذه المواجهة التي تبدأ بتعزيز صمود الذات أمام المغريات، وبتغذية الإيمان في القلب، وتغذية العقل بالعلم والمعرفة، وصولاً إلى محاولة إدراك الحكمة التي هي غاية العلم والمعرفة، لأنه بدون بلوغِ الحكمة يبقى العلم قاصراً والمعرفةُ ناقصة”.
كما تحدث عن أهمية المحافظة على العائلة كضمانة لنجاح المجتمع، وذلك من “خلال الإعداد السليم لها والسعي لتكوينها بنيّةٍ صادقة طيِّبة وبمحبة ومودّة واتّفاق وجهدٍ واحتمالٍ ورزانةٍ واحترامٍ متبادَلٍ وتعاونٍ وشراكةٍ حقيقيةٍ وتكامُلٍ، بدءاً من الاختيار الصحيح، والعلاقة الموزونة القائمة على العدل والإنصاف والاحترام المتبادَل والإخلاص، إلى الرعاية الأبوية المسؤولة، والتعاون على عدم الانغماس بالديون نتيجة المطالب التعجيزية الكمالية أو التشبُّه الأعمى بالمقتدرين والميسورين وأولئك الذين يُنفقون الأموالَ دون حسيبٍ أو رقيب”، ملمحاً إلى تقاليدَ جديدة نفضت ما قبلَها، ومتسائلاً: “هل يعني ذلك أن تلك العادات الجديدة أفضلُ مما قبلها؟ حتى أصبحت الفرَقُ والأزياءُ والسهراتُ المُكْلفة والمستورَدة عنواناً أساسيَّاً لعقد الزواج، بينما هي عرَضٌ فانٍ لا قيمةَ له أمام روحية الزواج الحقيقية، بما تعنيه من مودَّةٍ وسكونٍ، لقوله تعالى: “وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّةً ورحمة”، فالزواجُ ليس مجرَّدَ مظاهرَ وحفَلاتِ وزينة. الزواجُ شراكةٌ عميقةٌ روحيةٌ وماديَّة تقوم أساساً على المودّة والرحمة، فيسكن الزوج إلى زوجته والزوجةُ إلى زوجها، أي يصيرا واحداً في السعي والهمِّ والفرح والحزن والمسؤولية والتربية والارتقاء في طريق الخلاص”.
وأشار إلى أهمية القيام بالواجب الاجتماعي إضافة إلى الواجب العائلي، وهذا الواجب “يقضي بالتكافل والتضامن، فبعضُ الناس يعتبر أنّه يستطيع أن يعيشَ بعيداً عن هموم الناس وأن يتفلَّت من الواجب الإنساني والاجتماعي، أو أن يُنفقَ مالَه كما يحلو له وحيث يشاء، عملاً بحرية التصرُّف والإيصاء، متناسياً أنَّ ذوي القُربى من المحتاجين لهم حقٌّ عليه، وهم أحقُّ الناس بالمساعدة، قبل أن نُشرِّقَ ونُغرِّب في التبذير لغير ما هو ضروريٌّ وأَولى”.
وختم قائلاً: “لقد حملنا إرثاً غنيّاً من الفضائل والأخلاق والقيم التوحيدية والإنسانية والاجتماعية التي تغنّى بها القريبُ والبعيد، وعلينا ألَّا نخسرَها لمجرَّد الرغبة في التطوُّر، بل علينا المحافظة عليها والاستفادة منها، وهذا الإرثُ القيِّمُ قائمٌ على ركائزَ ثلاث لا تتبدَّل وإن تبدَّلت الظروف وبيئة العيش، أوّلها ركيزةُ العقيدة التوحيدية الشريفة، وثانيها ركيزةُ الأخلاق والفضائل، وثالثها ركيزة الانتماء الوطني والقومي والمواقف الجهادية والبطولية عبر التاريخ. على تلك الركائز يقومُ مجتمعُ الموحّدين الدروز، وإذا فُقدت أيةُ ركيزة تأثّر البناء وانهار… تلك هي الرسالة، نؤتَمن عليها، حفاظاً على الثوابت ومواكبةً للمستجدات؛ وهذه مسؤوليةٌ تُلقى علينا جميعاً، وعلينا ألّا نتخاذلَ أو نتوانى في حملِها، في ظلِّ التحدياتِ والمخططات وعصر المؤامرات والمتغيرات، وألَّا نُقلّل إزاءَها من ثقتنا بأنفسنا، وألاّ نتباهى فقط بما أنجزناه، في أيّ موقعٍ أو مجالٍ كان، فما ينتظرنا للعمل كثيرٌ كثير، وأملنا بالمستقبل أكبرُ بكثير”.
أبو ضرغم:
أمَّا المحاضر أبو ضرغم فقد أشار إلى ضرورة التوقف وتحديد الثوابت والمتغيرات في مجتمعنا التوحيدي “انطلاقاً من واقع مجتمعنا ودقة المرحلة التي نمر بها وخطورتها، والتي لا تختلف عن اي حقبة تاريخية مرّت علينا عبر العصور. فمنذ ان كان الانسان كان التوحيد، وكان يواجه مجتمعنا جدلية الثوابت والمتغيرات”.
وتابع قائلاً: “لقد تمظهرت هذه الجدلية الأزلية القديمة في كتاب الله العزيز بوضوح بين آدم وابليس: “إذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَر”، وقبل الاسلام ظهرت هذه الجدلية نفسها بين فلاسفة اليونان وفِي مقدمتهم افلاطون وصراعه مع السفسطائيين في عصره حيث جسد ذلك الصراع جدلية حركة المعرفة في عمق التجربة الانسانية كما وصفها سقراط بقوله “اعرف نفسك” .وتبنّى السيد الأمير عبد الله التنوخي بعد 1800 سنة تقريبا القول عينه: “ومن عرف نفسه عرف ربه”. بناء على ذلك اصبحت النفس هي حقل هذه الجدلية، وحقل اكتشاف الذات، وموضع الاختبار اليقيني بالسفر المعرفي الى حقيقية الثوابت والمتغيرات حيث تصبح الثوابت غايات والمتغيرات وسائل.”
وفي مقارنة واقعية محسوسة، قال: “إن الانسان فُطر على الخير ومعرفة المعاني المجردة، اي المُثل: كالفضل والشرف والعفاف، وهي بالمصطلح الافلاطوني: الحق والخير والحب والجمال. وبناءً على كتاب الجمهورية لأفلاطون (الفصل السابع) حول رمزية الكهف وما يحمل من معاني تُخاطب واقعنا اليوم، نجد أن رمزية الظلال التي تبدو على حائط كهف أفلاطون هي نفسها كشاشة الجوال في عصرنا هذا، ونجد وجه التشابه بين القيود المُكبِلة لأهل الكهف عند أفلاطون وعبودية أبنائنا لعصر الإنترنت المليء بمعلومات مضللة وخاطئة في آن، تجعل منهم عبيد القرن الواحد والعشرين.. من حيث لا يدرون! هنا تأتي أهمية الحرية بمفهومها الحقيقي، والتي لن يبلغَها إلاّ من تمكّن من فكّ قيوده والصعود إلى وجه الأرض ورؤية الحقيقة، ومقارنتها مع الحريّة الواهمة والضائعة في حياةِ أبنائنا، والتي يجبُ العملَ على استعادتِها واستعادتِهِم من خلال إحياء مفهوم “المَيْز” في أعماق نفوسهم، ليتمكنوا من التفريق بين أن نكون عبيدًا أو أن نكون أسيادًا؛ عندها، يمكننا الانتقال من عالم الحسيّات إلى عالم اليقينّيات ومن عالم الأموات في الروح، كما جاء في سورة الزُّمَر }إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ{، إلى الأحياء الذين عند ربِّهم يُرزقون، أولئك الذين اخترقوا حُجب عالم الظِلال (المظهر) إلى عالم الحقائق”.
وتساءل أبو ضرغم إذّاك: فما هي هذه الثوابت وهذه المتغيرات؟ مجيباً على سؤاله: “الثوابت هي عالم اليقينيات وعالم الحقائق، والمتغيرات هي عالم الحسيات وعالم الظِلال التي هي بدورها مظهر الحقيقة ومظهر تلك المعاني المجردة، كما أن الكلمة هي مظهر المعنى والمادة هي مظهر الطاقة والجسم مظهر الروح والدنيا مظهر الآخرة، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مصطلح الدّنيا في هذا السياق، وكما جاء في معجم “لسان العرب” لإبن منظور، يعني: دَنَا من الشيءِ دُنُوّاً أي قَرُبَ؛ فـ”اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” من جهة، ومن جهة أخرى “وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ“، ويُكمل في لسان العرب، فيقول: “دَنَتْ الدُّنْيَا وَتَأَخّرَتْ الآخِرَة”، أي وَجَب أن يصبحَ من الثوابت “إدخالُ الآخرة في الدنيا”. كما ذكرَ الرّاحل د. سامي مكارم، “أي إدخالَها في جميِع ما نفعلُ من علمٍ وعمل لتقومَ الآخرة وطبيعتِها في نفوسِنا على البدلِ من الدّنيا الدّنيئة في قلوبِنا، فنُحيلُ الكونَ سعادةَ أزليّةً من عينِ المُشاهِ”.
وأردف قائلاً: “إن الثوابت في مجتمعنا تتمثل بتلك القافلة من أهل الحق الذين خدموا الحقَّ منذ ان كان الانسان، مروراً بجميع الأزمنة ووصولاً الى زمن السيد الأمير عبد الله التنوخي ومن كان معه ومن جاء بعده من الشيوخ الثقات، واللائحة تطول… وينضمُ الى المتغيرات كلُّ مَن تعاطى مع هذا الزمن (وكل زمن) باستخفاف واستخدم الحق لمصالحه “الشخصية – الآنية” القائمة على مجد باطل لهذه “الأنا”، ولثقافة الفرق ولحب الظهور”.
وأضاف مشيراً إلى أن من الثوابت ايضاً مفهوم الزواج لدى طائفة الموحدين و”هو كيان قائم على أساس الرضا، اي قبول الحق وتعاليمه في الممارسة اليومية، كما على أساس التسليم، وهو الفعل انطلاقاً من هذه التعاليم بالكلية، كما شرح الامير جمال الدين عبد الله التنوخي. ومع الإقرار بمبدأ الرضا والتسليم بالحق تصبح المتغيرات خرقاً للعادات ولمفهوم حقيقة الزواج، واستراقاً لاطباع عالم الجهل وادخالها الى مجتمعنا تحت مقولة التمدن والحضارة من باب الحجة لا من باب حقيقة الحضارة، ومظاهر ذلك كثيرة لمن يريد ان يرى”! ولفت في هذا الإطار إلى أن ما يُحضَّر له من حفل زواج جماعي مشيراً إلى تخوُّفٍ من أن يكون فيه “هدمٌ لواحدة من أهمّ الاعراف والتقاليد، وأنه يساهم باستراق طبع عالم الجهل وادخاله على بيئتنا الحاضنة، والخروج عن العدل بخرق العادات في مجتمعنا المعروفي بما فيه من مكارم الاخلاق وحسن الافعال”.
ولفت اخيراً إلى أنه “لا بدّ من العمل وبكل جهد لتبيان الحق من الباطل في واقع مجتمعنا وإزالة السَحَر(اي اختلاط النور والظلمة قبل شروق الشمس) من عقول ونفوس ابنائنا لانه اخطر ما يكون هو ضياع سُلَّم الأولويات المُقبل علينا من داخل نفوسنا بأفكار مشتملة على التغيير غير أنها قائمة على التلبيس والتمويه بين الحق والباطل من دون أن ندرك!! لذا علينا العودة الى الثوابت، ومنها كما جاء في إنجيل متّى: بَلْ لِيَكُنْ كَلَامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لَا َلا. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِرِّيرِ.””.
وختم أبو ضرغم قائلاً: “من هنا علينا تحديد الثوابت والمتغيرات في كثير من الموضوعات لإنقاذ نفوسنا ومجتمعنا، ومنها على سبيل العَدّ لا الحصر: العولمة والثورة التكنولوجية، الحرية والعبودية، النمط الغربي وأثره في واقع مجتمعنا، ثقافة الحياة والموت بالمعنى الروحي، الفضيلة والرذيلة، مفهوم الزواج، الاخلاق بين الثابت والمتغير، الانسان وقيمته الكونية وغيرها من الموضوعات التي علينا العمل على توعية ابنائنا عليها، والتي من أخطرها أشكال العبودية المقنّعة ومنها في الظاهر: الخمرة والمسكرات والمخدرات والدخان والنارجيلة…، ومنها في الباطن: الطيش والنزاقة والشراسة وحب الرئاسة والغضب والعجب وتفضيل مدح الناس وحمدهم على حمد الله، كما جاء على لسان الشيخ الفاضل محمد ابو هلال(ر)”.
في ختام الندوة أجاب المحاضرون على بعض الأسئلة، كما قدَّمت عضو اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الدكتورة فريال زهر الدين مداخلة تكلمت فيها عن المرأة الموحِّدة، وطرحت عدة تساؤلات حول إمكانية إعطائها حقوقها المشروعة، واختُتمت الندوة بصورٍ تذكارية لأعضاء اللجنة الثقافية والرابطة والبلدية وشخصيات من الحضور.